بحـث
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
مواضيع مماثلة
سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام
سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام
النبي الأمي العربي من بني هاشم توفيت أمه آمنة وهو لا يزال طفلا كفله جده عبد المطلب ثم عمه أبو طالب ورعى الغنم لزمن تزوج من السيدة خديجة بنت خويلد وهو في الخامسة والعشرين من عمره دعا الناس إلى الإسلام أي إلى الإيمان بالله الواحد ورسوله بدأ دعوته في مكة فاضطهده أهلها فهاجر إلى المدينة حيث اجتمع حوله عدد من الأنصار عام 622 م فأصبحت هذه السنة بدء التاريخ الهجري توفي بعد أن حج حجة الوداع.
نسبه :
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كناتة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليها السلام
مولده :
ولدت آمنة نبينا محمداُ في مكة بعد وفاة أبيه بأشهر في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول عام الفيل الموافق عام 571 م
ولد النبي يتيم الأب قال تعالى : {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى}
وفرحت به أمه، وفرح جده عبد المطلب وسماه محمداً
الرضاع
وكان من عادة العرب أن يلتمسوا المواضع لمواليدهم في البوادي ليكون أنجب للولد، وكانوا يقولون: إن المربي في المدن يكون كليل الذهن فاتر العزيمة، فجاءت نسوة من بني سعد بن بكر يطلبن أطفالاً يرضعنهم، فكان الرضيع المحمود من نصيب حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، واسم زوجها أبو كبشة، وهو الذي كانت قريش تنسب له الرسول حينما يريدون الاستهزاء به، فيقولون: هذا ابن أبي كبشة يكلم من السماء.
ودرت البركات على أهل ذلك البيت الذي أرضعوه مدة
وجوده بينهم، وكانت تربو عن أربع سنوات.
وفاة أمنة وكفالة عبد المطلب ووفاته وكفالة أبي طالب
ثم إن أمه أخذته منها وتوجهت به إلى المدينة لزيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار وبينما هي عائدة أدركتها منيتها في الطريق فمات بالأبواء فحضنته أم أيمن وكفله جده عبد المطلب ورق له رقة لمك تعهد له في ولده؛ لما كان يظهر عليه مما يدل على أن له شأنا عظيماً في المستقبل، وكان يكرمه غاية الإكرام.
السفر إلى الشام
ولما بلغت سنُّه عليه الصلاة والسلام اثنتي عشرة سنة، أراد عمّه وكفيله السفر بتجارة إلى الشام، فاستعظم الرسول فراقه، فرقّ له، وأخذه معه، وهذه هي الرحلة الأولى، ولم يمكثوا فيها إلا قليلاً،
وقد أشرف على رجال القافلة وهم بقرب بُصرى بحيرا الراهب، فسألهم عمّا رآه في كتبهم المقدسة من بعثة نبي من العرب في هذا الزمن، فقالوا: إنه لم يظهر للآن. وهذه العبارة كثيراً ما كان يلهج بها أهل الكتاب من يهود ونصارى قبل بعثة الرسول
{ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}
حرب الفِجار
ولما بلغت سنّه عليه الصلاة والسلام عشرين سنة حضر حرب الفِجَارِ، وهي حرب كانت بين كِنانة ومعها قريش، وبين قيس.
وسببها:
أنه كانَ للنعمان بن المنذر ملكِ العرب بالحيرة تجارة يرسلها كل عام إلى سوق عُكاظ لتُباع له، وكان يرسلها في أمان رجل ذي منعةٍ وشرف في قومه ليجيزها فجلس يوماً وعنده البراض بن قيس الكناني وكان فاتكاً خليعاً خلعه قومه لكثرة شرّه وعروة بن عتبة الرحَّال فقال: مَنْ يُجيز لي تجارتي هذه حتى يبلغها عكاظ؟ فقال البرَّاض: أنا أُجيزها على بني كنانة، فقال النعمان: إنما أُريد مَنْ يُجيزُها على الناس كلهم. فقال عروة: أبيت اللعن أكلبٌ خليع يجيزها لك؟ أنا أجيزها على أهل الشيح والقَيْصوم من أهل نجد وتهامة. فقال البَرَّاض: أو تُجيزها على كنانة يا عروة؟ قال: وعلى الناس كلهم، فأسرَّها في نفسه، وتربَّص له حتى إذا خرج بالتجارة، قتله غدراً، ثم أرسل رسولاً يخبر قومه كنانة بالخبر، ويحذرهم قيساً قوم عروة.
وأما قيس فلم تلبث بعد أن بلغها الخبر أن همّت لتدرك ثأرها، حتى أدركوا قريشاً وكنانة بنخلة، فاقتتلوا، ولما اشتدّ البأس وحميت قيس، احتمت قريش بحرمها، وكان فيهم رسول الله ثم إن قيساً قالوا لخصومهم: إنّا لا نترك دم عروة، فموعدنا عكاظ العام المقبل، وانصرفوا إلى بلادهم يحرض بعضهم بعضاً.
وكادت الدائرة تدور على قيس حتى انهزم بعض قبائلها ولكن أدركهم مَنْ دَعَا المتحاربين للصلح على أن يُحصُوا قتلى الفريقين، فمَن وجد قَتلاه أكثر أخذ ديَة الزائد، فكانت لقيس زيادة أخذوا ديتها من قريش وتعهد بها حرب بن أمية، ورهن لسَدَادها ولده أبا سفيان.
وهكذا انتهت هذه الحرب التي كثيراً ما تشبه حروب العرب تبدؤها صغيرات الأمور حتى ألّفَ الله بين قلوبهم وأزاح عنهم هذه الضلالات بانتشار نور الإسلام بينهم.
حِلف الفضول
وعند رجوع قريش من حرب الفِجَار تداعوا لحلف الفُضُول فتم في دار عبد الله بن جُدْعَان التَّيْمِي أحد رؤساء قريش، وكان المتحالفون: بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، وبني أسد بن عبد العزّى، وبني زهرة بن كلاب، وبني تَيْم بن مُرّة تحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، حتى تردّ إليه مَظْلِمته.
وقد حضر هذا الحلف رسول الله عليه الصلاة والسلام مع أعمامه،
وقال بعد أن شرّفه الله بالرسالة:
«لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جُدعان
ما أحبّ أن لي به حُمْر النَّعَمِ ولو دعيت به في الإسلام لأجبت»
وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام مبعوث بمكارم الأخلاق، وهذا منها، وقد أقر دينُ الإِسلام كثيراً منها، يرشدك إلى هذا قوله عليه الصلاة والسلام: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»
وقد دعا بهذا الحلف كثيرون فأنصفوا.
رحلته إلى الشام المرة الثانية
ولما بلغت سنه عليه الصلاة والسلام خمساً وعشرين سنة سافر إلى الشام المرّة الثانية، وذلك أن خديجة بنت خويلد الأسدية كانت سيدة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه، فلما سمعت عن السيد من الأمانة وصِدق الحديث ما لم تعرفه في غيره حتى سمّاه قومه الأمين، استأجرته ليخرج في مالها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ممّا كانت تعطي غيره، فسافر مع غلامها مَيْسرة فباعا وابتاعا وربحا ربحاً عظيماً، وظهر للسيد الكريم في هذه السفرة من البركات ما حبّبه في قلب ميسرة غلام خديجة.
زواجه خديجة
فلما قَدِما مكة ورأت خديجة ربحها العظيم سُرَّت من الأمين عليه الصلاة والسلام وأرسلت إليه تخْطُبُهُ لنفسها، وكانت سنها نحو الأربعين، وهي من أوسط قريش حسباً وأوسعهم مالاً، فقام الأمين عليه الصلاة والسلام مع أعمامه حتى دخل على عمّها عمرو بن أسد، فخطبها منه بواسطة عمه أبي طالب، فزوّجها عمّها.
وقد خطب أبو طالب في هذا اليوم فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضِئْضِىءِ معدّ، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وسُوّاس حرمه، وجعله لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا حكّام الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يُوزن به رجل شرفاً ونبلاً وفضلاً، وإن كان في المال قُلٌّ، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مستردّة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصَّدَاقِ كذا وعلى ذلك تم الأمر.
وقد كانت متزوجة قبله بأبي هالة، توفي عنها وله منها ولد اسمه هالة، وهو ربيب المصطفى عليه الصلاة والسلام.
بناء البيت
ولما بلغت سنه عليه الصلاة والسلام خمساً وثلاثين سنة، جاء سيل جارف فصدَّع جدران الكعبة بعد توهينها من حريق كان أصابها قبل، فأرادت قريش هدمها ليرفعوها ويسقفوها، فإنها كانت رضيمة فوق القامة، فاجتمعت قبائلهم لذلك، ولكنهم هابوا هدمها لمكانها في قلوبهم. فقال لهم الوليد بن المغيرة: أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟ قالوا: بل الإصلاح، قال: إن الله لا يهلك المُصلِحين، وشرع يهدم فتبعوه وهدموا حتى وصلوا إلى أساس إسماعيل، وهناك وجدوا صِحافاً نُقش فيها كثير من الحِكَم على عادة مَنْ يضعون أساس بناء شهير ليكون تذكرة للمتأخرين بعمل المتقدمين ثم ابتدؤوا في البناء وأعدّوا لذلك نفقة ليس فيها مَهرُ بغيَ ولا بيعُ رِبا وجعل الأشراف من قريش يحملون الحجارة على أعناقهم، وكان العباس ورسول الله فيمن يحمل، وكان الذي يلي البناء نجار رومي اسمه باقوم، وقد خصّص لكل ركن جماعة من العظماء ينقلون إليه الحجارة، وقد ضاقت بهم النفقة الطيبة عن إتمامه على قواعد إسماعيل، فأخرجوا منها الحِجْرَ، وبنوا عليه جداراً قصيراً، علامة على أنه من الكعبة ولا يُستغرب من قريش تنافسهم هذا لأن البيت قِبلَة العرب وكعبتهم التي يحجّون إليها، فكل عمل فيه عظيم به الفخر والسيادة،
وهو أول بيت وُضِع للعبادة بشهادة
قال تعالى:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ
(96) فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً}
وكان يلي أمره بعد ولد إسماعيل قبيلة جُرهم فلما بَغوا وظلموا مَنْ دخل مكة اجتمعت عليهم خزاعة وأجلَوهم عن البيت ووليته خزاعة حيناً من الدهر ثم أخذته منهم في عهد قصي بن كلاب وبسببه أمِنوا في بلادهم فكانت قبائل العرب تهابهم وإذا احتموا به كان حصناً أميناً من اعتداء العادين
قال تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}
معيشته عليه الصلاة والسلام قبل البعثة
لم يَرث عليه الصلاة والسلام من والده شيئاً، بل ولد يتيماً عائلاً فاسترضع في بني سعد، ولما بلغ مبلغاً يمكِّنه أن يعمل عملاً كان يرعى الغنم مع إخوته من الرضاع في البادية، وكذلك لمّا رجع إلى
مكة كان يرعاها لأهلها على قراريط.
ووجود الأنبياء في حال التجرد عن الدنيا ومشاغلها أمر لا بدّ منه، لأنهم لو وجدوا أغنياء لألهتهم الدنيا وشغلوا بها عن السعادة الأبدية، ولذلك ترى جميع الشرائع الإلهية متفقة على استحسان الزهد فيها والتباعد عنها، وحال الأنبياء السالِفين أعظمُ شاهد على ذلك، فكان عيسى عليه السلام أزهدَ الناس في الدنيا، وكذلك كان موسى، وإبراهيم. وكانت حالتهم في صغرهم ليست سَعَة بل كلهم سَواء؛ تلك حكمة بالغة أظهرها الله على أنبيائه ليكونوا نموذجاً لمتبعيهم في الامتناع عن التكالب على الدنيا والتهافت عليها، وذلك سبب البلايا والمحن.
ولما شبّ عليه الصلاة والسلام كان يتجر، وكان شريكه السائب بن أبي السائب. وذهب بالتجارة لخديجة إلى الشام على جُعْل يأخذه. ولما شرفت خديجة بزواجه، وكانت ذات يسار، عمل في مالها
وكان يأكل من نتيجة عمله.
سيرته في قومه قبل البعثة
كان عليه الصلاة والسلام أحسن قومه خُلقاً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدَهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى كان أفضلَ قومه مروءةً، وأكرمَهم مخالطة، وخيرهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدَقهم حديثاً، فسمّوه الأم ين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة الحميدة، والفعال السديدة من الحلم، والصبر، والشكر، والعدل، والتواضع، والعفّة، والجود، والشجاعة، والحياء.
حتى شهد له بذلك ألدُّ أعدائه النضر بن الحارث من بني عبد الدار حيث يقول: قد كان محمد فيكم غلاماً حَدَثاً، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانةً، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشَّيب وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر. قال ذلك في معرض الاتفاق على ما يقولونه للعرب الذين يحضرون الموسم حتى يكونوا متفقين على قول مقبول يقولونه.
وقال عليه الصلاة والسلام:
«لما نشأتُ بُغِّضَتْ إليّ الأوثان، وبُغِّض إليّ الشعر، ولم أهمّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك. ثم ما هممتُ بسوء بعدهما حتى أكرمني الله برسالته. قلت ليلة لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسْمُر كما يسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئتُ أول دارٍ من مكة أسمع عزفاً بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم، فجلست لذلك، فضرب الله على أذنيَّ فنمت فما أيقظني إلا مسّ الشمس ولم أقضِ شيئاً، ثم عراني مرة أخرى مثل ذلك».
وكان عليه الصلاة والسلام لا يأكل ما ذبح على النصب وحرّم شرب الخمر على نفسه مع شيوعه في قومه شيوعاً عظيماً، وذلك كله من الصفات التي يُحَلِّي الله بها أنبياءه ليكونوا على تمام الاستعداد لتلقّي وحيه، فهم معصومون من الأدناس قبل النبوّة وبعدها، أما قبل النبوة فليتأهلوا للأمر العظيم الذي سيُسند إليهم، وأمَّا بعدها فليكونوا قدوة لأممهم. عليهم من الله أفضل الصلوات وأتمّ التسليمات.
ما أكرمه الله به قبل النبوّة
أول منحة من الله ما حصل من البركات على آل حليمة الذين كان مسترضعاً فيهم، فقد كانوا قبل حلوله بناديهم مجدبين فلما صار بينهم صارت غُنَيماتهم تؤوب من مرعاها وإن أضراعها لتسيل لبناً.
ثم أعقب ذلك ما حصل من شق صدره وإخراج حظِّ الشيطان منه،
وليس هذا بالعجيب على قدرة الله تعالى، فمن استبعد ذلك كان قليل النظر، لا يعرف من قوة الله شيئاً، لأن خرق العادات للأنبياء ليس بالأمر المستحدث ولا المستغرب
ومن المكرمات الإلهية تسخير الغمامة له في سفره إلى الشام حتى كانت تظله في اليوم الصائف
لا يشترك معه أحد في القافلة كما روى ذلك ميسرة غلام خديجة الذي كان مُشاركاً له في سفره وهذا ما حبّبه إلى خديجة حتى خطبته لنفسها وتيقنت أن له في المستقبل شأناً ولذلك لما جاءته النبوّة كانت أسرع الناس إيماناً به ولم تنتظر آيةً أخرى زيادة على ما علمته من مكارم الأخلاق وما سمعته من خوارق العادات ومن منن الله عليه ما كان يسمعه من السلام عليه من الأحجار والأشجار فكان إذا خرج لحاجته أبعدَ حتى لا يرى بناء ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا سمع الصلاة والسلام عليك يا رسول الله وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحداً وقد حدَّث بذلك عن نفسه. وليس في ذلك كبير إشكال فقد سخّر الله الجمادات للأنبياء قبله فعصا موسى التقمت ما صنع سَحَرَة فرعون بعد أن تحوّلت حيّة تسعى ثم رجعت كما كانت ولما ضرب بها الحجر نبع منه الماء اثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباط بني إسرائيل عين وكذلك غيره من الأنبياء سخّر الله لهم ما شاء من أنواع الجمادات لتدلّ العقلاء على عظيم قدرهم وخَطَارة شأنهم.
تبشير التوراة به
أنزل الله التوراة على موسى محتوية على الشرائع التي تناسب أهل ذاك الزمن، ونوّه فيها بذكر كثيرٍ من الأنبياء الذين علم الله أنه سيرسلهم، فمما جاء فيها تبشيراً برسولنا الكريم خطاباً لسيّدنا موسى عليه السلام: «وسوف أُقيم لهم نبيّاً مثلك من بين إخوتهم وأجعل كلامي في فمه ويكلمهم بكل شيء آمره به، ومَنْ لم يُطِعْ كلامه الذي يتكلم به باسمي فأنا الذي أنتقم منه، فأما النبي الذي يجترئ عليّ بالكبرياء ويتكلم باسمي بما لم آمره به أو باسم آلهة أخرى فليقتل، وإذا أحببتَ أن تميز بين النبي الصادق والكاذب فهذه علامتك: إنّ ما قاله ذلك النبي باسم الرب ولم يحدث فهو كاذب يريد تعظيم نفسه ولذلك لا تخشاه».
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن صفته في التوراة فقال وهو الصادق الأمين: عبدي أحمد المختار مولده مكة ومهاجره المدينة أو قال: طَيْبة وأمته الحمَّادون الله على كل حال.
تبشير الإنجيل
بشّر عيسى عليه السلام قومه في الإنجيل بالفارقليط
ومعناه قريب من محمد أو أحمد ويصدّقه في القرآن
قال تعالى:
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْراءيلَ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ}
وقد وصف المسيح هذا الفارقليط بأوصاف لا تنطبق إلا على نبيّنا فقال: إنه يوبخ العالم على خطيئته، وإنه يعلِّمهم جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع،
قال تعالى:
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى}
وقد ورد في إنجيل برنابا الذي ظهر منذ زمن قريب وأخفته حجب الجهالة ذكرُ اسم الرسول عليه الصلاة والسلام صراحة.
حركة الأفكار قبل البعثة
وهذا يسهل لك فهم الحركة العظيمة من الأحبار والرهبان قبيل البعثة فكان اليهود يستفتحون على عرب المدينة برسول منتظر.
فقد حدَّث عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه، قالوا: إنما دعانا للإسلام مع رحمة الله تعالى لنا ما كنا نسمع من أحْبار يَهود، كنا أهل شِرك وأصحابَ أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون، قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يُبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فكثيراً ما نسمع ذلك منهم. فلما بعث الله رسوله محمداً أجَبْنا حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنّا وكفروا. وإنما قال لهم اليهود نقتلكم معه قتل عاد وإرم لأن من صفته عليه الصلاة والسلام في كتبهم أن هذا النبيَّ يستأصل المشركين بالقوة، ولم يكونوا يظنون أَنَّ الحسد والبغي سيتمكنان من أفئدتهم فينبذون الدين القيّم فيحقّ عليهم العذاب في الدنيا والآخرة.
وكان أميّة بن أبي الصلت المتنصّر العربي كثيراً ما يقول: إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا.
وحدَّث سلمان الفارسي عن نفسه أنه صحب قسيساً فكان يقول له: يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولاً اسمه أحمد، يخرج من جبال تهامة، علامته أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وهذا الحديث كان من أسباب إسلام سلمان.
ولما راسل عليه الصلاة والسلام ملوك الأرض لم يُهِنْ كتابه إلا كسرى الذي ليس عنده علم من الكتاب، وأما جميع ملوك النصارى كالنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر، وقيصر ملك الروم، فأكرموا وِفَادَةَ رسله. ومنهم من آمن كالنجاشي، ومنهم من ردّ ردّاً لطيفاً وكاد يسلم لولا غلبة الملك كقيصر، ومنهم من هادى كالمقوقس، ولم يكن عليه الصلاة والسلام في قوّة يُرهِبُ بها هؤلاء الملوك اللهمَّ ما ذاك إلا لأنهم يعلمون أن المسيح عليه السلام بشّر برسول يأتي من بعده، ووافقت صفات رسولنا ما عندهم فأجابوا بالتي هي أحسن.
وأما ما سُمع من الهواتف والكُهان قبيل زمنه فهو ما لا يدخل تحت حصر. وليس بعد ما ذكرته لك زيادة لمستكثر.
بدء الوحي
لمّا بلغ عليه الصلاة والسلام سن الكمال وهي أربعون سنة أرسله الله للعالمين بشيراً ونذيراً ليُخرجهم من ظُلمات الجهالة إلى نور العلم وكان ذلك في أول فبراير سنة 610 من الميلاد كما أوضحه المرحوم محمود باشا الفلكي تبين بعد دقة البحث أَنَّ ذلك كان في 17 رمضان سنة 13 قبل الهجرة وذلك يوافق يوليو سنة 610.
وأول ما بدء به الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلق الصبح وذلك لما جرت به عادة الله في خلقه من التدريج في الأمور كلها حتى تصل إلى درجة الكمال. ومن الصعب جداً على البشر تلقي الوحي من المَلَك لأول مرة.
ثم حبّب إليه عليه الصلاة والسلام الخلاء ليبتعد عن ظُلُمات هذا العالم وينقطع عن الخلق إلى الله فإن في العزلة صفاءَ السريرة. وكان يخلو بغار حراء فيتعبَّد فيه الليالي ذوات العدد فتارة عشراً وتارة أكثر إلى شهر وكانت عبادته على دين أبيه إبراهيم عليه السلام ويأخذ لذلك زاده فإذا فرغ رجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
فبينما هو قائم في بعض الأيام على الجبل إذْ ظهر له شخص وقال: أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله إلى هذه الأمة. ثم قال له: اقرأ قال: ما أنا بقارئ فإنه عليه الصلاة والسلام أميّ لم يتعلم القراءة قبلاً. فأخذه فغطه بالنمط الذي كان ينام عليه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. فأخذه فغطّه ثانية ثم أرسله فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ فأخذه فغطّه الثالثة ثم أرسله
فقال تعالى:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ(1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ(3) الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}
فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده حتى دخل على خديجة بنت خويلد . فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع . فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا . إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق .
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان قد تنصر في الجاهلية . وكان يكتب الكتاب العبراني . فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي . فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك . فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى . فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ؟ قال أو مخرجي هم ؟ قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي . وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم أنشد ورقة
الدعوة سرّا
فقام عليه الصلاة والسلام بالأمر ودعا لعبادة الله أقواماً جُفاة لا دين لهم، إلا أن يسجدوا لأصنام لا تنفع ولا تضر، ولا حجة لهم ألا أنهم متّبِعون لما كان يعبد آباؤهم، وليس عندهم من مكارم الأخلاق إلا ما كان مرتبطاً بالعزّة والأَنَفة، وهو الذي كثيراً ما كان سبباً في الغارات والحروب وإهراق الدماء، فجاءهم رسول الله بما لا يعرفونه فذوو العقول السليمة بادروا إلى التصديق وخلع الأوثان، ومن أعْمَته الرياسة أدبر واستكبر كيلا تُسلَب منه عظمته.
خديجة بنت خويلد زوجته وعلي بن أبي طالب ابن عمه أول من آمن من الصبيان وزيد بن حارثة مولاه عليه الصلاة والسلام وأم أيمن التي زوجها لمولاه زيد وأبو بكر عبد الله بن عثمان أول من الرجال وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وأمه صفية عمة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وصهيب الرومي وكذلك أسلم أبوه ياسر وأمه سمية وعبد الله بن مسعود وأبو ذر الغفاري وأخيه أنيس وسعيد بن زيد وزوجه فاطمة بنت عمر بن الخطاب وأم الفضل لبابة بنت الحارث زوج العباس بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وأبو سلمة وأم سلمة وعثمان بن مظعون وأخوه : قدامة وعبد الله والأرقم بن أبي الأرقم وخالد بن سعيد
الجهر بالتبليغ
لا يظهر الدعوة في مجامع قريش العمومية , ولم يكن المسلمون يتمكنون من إظهار عبادتهم حذرا من تعصب قريش , فكان كل من أراد العبادة ذهب إلى شعاب مكة يصلى مستخفياً.
ولما دخل فى الدين ما يربو على الثلاثين وكان من اللازم اجتماع الرسول بهم ليرشدهم ويعلمهم, اختار لذلك دار الأرقم بن أبى الأرقم ومكث عليه الصلاة والسلام يدعو سراً حتى نزل عليه
قوله تعالى
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}
فبدل بالدعة سراً الدعوة جهراً , ممتثلا أمر ربه واثقا بوعده ونصره , فصعد على الصفا فجعل ينادى : يا بني فهر , يا بني عدى... لبطون قريش , فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر الخبر , فجاء أبو لهب بن عبد المطلب وقريش فقال : أرايتم لوأخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أت تغير عليكم أكنتم مصدقى ؟ قالوا نعم , ما جربنا عليك كذبا , قال : فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد , فقال أبو لهب : تبا لك الهذا جمعتنا فانزل الله فى شأنه
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ{1} مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ{2} سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ{3} وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ{4} فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ}
والقصد من حمل الحطب إمرأة أبى لهب اسمها أم جميل بنت حرب بن أمية , كانت تشارك زوجها آذية رسول الله
الإيذاء
ورأى رسول الله من المشركين كثير الأذى وعظيم الشدّة، خصوصاً إذا ذهب إلى الصلاة عند البيت وكان من أعظمهم أذًى لرسول الله جماعة سمّوا لكثرة أذاهم بالمستهزئين. أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي وأبو لهب بن عبد المطلب وعُقبة بن أبي مُعيط والعاص بن وائل السهمي القرشي والأسود بن عبد يغوث الزهري القرشي والأسود بن عبد المطلب الأسدي والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث العبدري
إسلام حمزة
وكان بعض إيذائهم هذا سبباً لإسلام عمّه حمزة بن عبد المطلب فقد أدركته الحميّة عندما عيّرته بعض الجواري بإيذاء أبي جهل لابن أخيه فتوجه إلى ذلك الشقي وغاضبه وسبّه وقال: كيف تسبّ محمداً وأنا على دينه؟ ثُمَّ أنار الله بصيرته بنور اليقين حتى صار من أحسن الناس إسلاماً وأشدّهم غيرة على المسلمين وأقواهم شكيمة على أعداء الدين حتى سمي أسدَ الله.
هجرة الحبشة الأولى
فعند ذلك تجهزَ ناس للخروج من ديارهم وأموالهم فراراً بدينهم كما أشار عليه الصلاة والسلام وهذه هي أول هجرة من مكة وعدّة أصحابها عشرة رجال وخمس نسوة، وهم: عثمان بن عفان وزوجه رقيّة بنت رسول الله وأبو سلمة وزوجه أُم سلمة وأخوه لأمه أبو سَبْرة بن أبي رُهْم وزوجه أم كلثوم وعامر بن ربيعة وزوجه ليلى وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وزوجه سهلة بنت سُهَيل وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن مظعون ومصعب بن عمير وسُهَيْل بن البيضاء والزبير بن العوّام وجُلّهم من قريش وكان عليهم فيما عثمان بن مظعون فساروا على بركة الله، ولما انتهوا إلى البحر، استأجروا سفينة أوصلتهم إلى مقصدهم، فأقاموا آمنين من أذًى يلحق بهم من المشركين، ولم يبق مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا القليل
يـــــتبع
رد: سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام
إسلام عمر
وفي ذلك الوقت أسلم الشهم الهمام عمر بن الخطاب العدوي القرشي بعد ما كان عليه من كراهية المسلمين وشدة أذاهم. قالت ليلى إحدى المهاجرات لأرض الحبشة مع زوجها: كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما ركبتُ بعيري أُريد أن أتوجه إلى أرض الحبشة إذا أنا به، فقال لي: إلى أين يا أُم عبد الله؟ فقلت: قد آذيتمونا في ديننا، نذهبُ في أرض الله حيث لا نؤذى، فقال: صحبكم الله، فلما جاء زوجي عامر أخبرته بما رأيت من رِقَّةِ عمر، فقال: ترجين أن يُسْلم؟ والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب وذلك لما كان يراه من قسوته وشدته على المسلمين، ولكن حصلت له بركة دعوة المصطفى ، فإنه قال قبيل إسلامه: «اللهم أعِزّ الإسلام بعمر».
رجوع مهاجري الحبشة
وبعد ثلاثة أشهر من خروج مهاجري الحبشة رجعوا إلى مكة حيث لا تتيسر لهم الإقامة فيها لأنهم قليلو العدد وفي الكثرة بعض الأُنس وأَضِف إلى ذلك أنهم أشراف قريش ومعهم نساؤهم، وهؤلاء لا يطيب لهم عيش في دار غربة بهذه الحالة.
وقد أُولع بعض المؤرخين بحكاية يجعلونها سبباً في رجوع مهاجري الحبشة، وهي أنه بلغهم إسلام قومهم حينما قرأ عليهم الرسول، وتكلم فيها كلاماً حسناً عن آلهتهم حيث قال بعد: (أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19) وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى)
وهذا مما لا تجوز روايته إلا من قليلي الإدراك الذين ينقلون كل ما وجدوه غير متثبتين من صحته، وها نحن أُولاء نسوق لك أدلة النقل والعقل على بطلان ما ذكر.
وأما المتن فليس أصحاب رسول الله r ولا المشركون مجانين حتى يسمعوا مدحاً أثناء ذم ويجوز ذلك عليهم، فبعد ذكر الأصنام قال:
(إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآء سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ).
فالكلام غير مُنْتَظم، ولو كان ذلك قد حصل لاتَّخذه الكفار عليه حجة يحاجّونه بها وقت الخصام، وهم من نعرفهم من العناد فيما ليس فيه أدنى حجة، فكيف بهذه؟ وليس ذلك القيل أقل من تحويل القبلة إلى الكعبة، وهذا قالوا فيه ما قالوا حتى سمَّاهم الله سفهاء قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَآء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا}
ولكن لم يُسمع عن أي واحد من رجالاتهم والمتصدرين للعناد منهم أن قال: ما لك ذَممتَ آلهتنا بعد أن مدحتها وكان ذلك أولى لهم من تجريد السيوف وبذل مُهج الرجال رواه عبد الله بن مسعود أن النبي قرأ النجم فسجد وسجد من كان معه إلا رجلا أخذ كفاً من حصىً وضعه على جبهته وقال يكفيني هذا فرأيته قتل بعد كافرا وليس في الحديث أي دلالة على أن الذين سجدوا معه هم مشركون بل الذي يفيده قوله فرأيته قتل بعد كافرا أنه كان مسلما ثم رأيته ارتد وهذا ما حصل من بعض ضعاف القلوب الذين لم يتحملوا الأذى فكفروا منهم علي بن أمية بن خلف
هجرة الحبشة الثانية
وبعد دخول الرسول وقومِهِ الشِّعْبَ أمر جميع المسلمين أن يهاجروا للحبشة حتى يساعد بعضهم بعضاً على الاغتراب فهاجر معظمهم وكانوا نحو ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة وكان من الرجال جعفر بن أبي طالب وزوجه أسماء بنت عُمَيْس والمقداد بن الأسود وعبد الله بن مسعود وعبيد الله بن جحش وامرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان وتوجه لهم الذين أسلموا من جهة اليمن وهم الأشعريون أبو موسى وبنو عمه ولما رأتْ قريش ذلك أرسلت في أثرهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدايا إلى النجاشي ليُسَلِّم المسلمين فرجعا شَرَّ رجعة ولم ينالا من النجاشي إلا إهانة لما خاطبوه به من إخفار ذمته في قوم لاذوا به أما بنو هاشم فمكثوا في الشعب قريباً من ثلاث سنوات في شدة الجهد والبلاء لا يصلهم شيء من الطعام إلا خفية.
وفاة خديجة
وبعد خروجه عليه الصلاة والسلام من الشعب بقليل وقبل الهجرة بثلاث سنين توفيت خديجة بنت خويلد زوجهy وكان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يذكرها ويترحم عليها ولا غرابة فهي أول نفس زكية صدَّقت رسول الله فيما جاء به عن ربه وقد جاء منها بأولاده كلهم ما عدا إبراهيم.
فمنها زينب وهي أكبر بناته تزوجها في الجاهلية أبو العاص بن الربيع وأعقب منها أمامة التي تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة.
ومنها رقيّة وأُم كلثوم تزوجهما عثمان بن عفان الأولى بمكة قبل الهجرة وهاجر بها إلى الحبشة والثانية بالمدينة بعد أَنْ ماتت أختها.
ومنها فاطمة وهي أصغر بناته تزوجها علي بن أبي طالب،
ومنها القاسم وكان به يكنى رسول الله r وعبد الله الملقب بالطيب والطاهر وقد جاءت خديجة بأولاد توفّوا صغاراً ولم يعش بعد رسول الله r من أولاده إلاّ فاطمة عاشت بعده قليلاً ولما توفيت خديجة حزن عليها رسول الله r حزناً شديداً لما كانت عليه من الرقة لرسول اللهr ومحاجزة الكفار عنه لما لها من الجاه في عشيرتها بني أسد،
زواج سودة
وعقد عليه الصلاة والسلام في الشهر الذي ماتت فيه خديجة على سَوْدة بنت زَمْعَة العامرية القرشية بعد أن توفي عنها زوجها وابن عمها السكران بن عمرو وقد كانت آمنت بالله وبرسوله وخالفت أقاربها وبني عمها وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة في المرة الثانية خوف الفتنة وعقب رجوعه من هجرته توفي عنها فلم يكن ثم أجمل مما صنعه الرسول rبزوج رجل آمن به ولو تركت لقومها مع ما هم عليه من الغلظة وكراهة الإسلام لفتنوها وكرمُ نسبها في قومها يمنعها من التزوّج برجل أقل منها نسباً وشرفاً.
زواج عائشة
بعد ذلك بشهر عقد على عائشة بنت صديقه أبي بكر وهي لا تتجاوز السابعة من عمرها، ولم يتزوج عليه الصلاة والسلام بكراً غيرها، ودخل عليها بالمدينة، أما سَودةُ فدخل عليها بمكة.
وفاة أبي طالب
وبعد وفاة خديجة بنحو شهر، توفي عمه أبو طالب، الذي كان يمنعه من أذى أعدائه، ومع أنه كان لا يُكَذِّب رسول الله فيما جاء به بل يعتقد صدقه لم ينطق بالشهادتين حتى آخر لحظة من حياته، وفيه نزل:
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
وقد سمى رسول الله هذا العام الذي فقد فيه زوجه وعمه عام الحزن.
ولما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله ما لم يمكنها نيله في حياة أبي طالب، واشتد الأمر عليه حتى كانوا ينثرون التراب على رأسه وهو سائر، ويضعون أوساخ الشاة عليه في صلاته، وتعلقت به كفار قريش مرة يتجاذبونه ويقولون له: أنت الذي تريد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ فما تقدم أحد من المسلمين حتى يخلصه منهم لما هم عليه من الضعف .
هجرة الطائف
فلما رأى عليه الصلاة والسلام استهانة قريش به أراد أن يتوجه إلى ثقيف بالطائف يرجو منهم نصرته على قومه ومساعدته حتى يتمّم أمر ربه لأنهم أقرب الناس إلى مكة وله فيهم خؤولة فإن أم هاشم بن عبد مناف عاتكة السلمية من بني سُلَيم بن منصور وهم حلفاء ثقيف فلما توجه إليهم ومعه مولاه زيد بن حارثة قابل رؤساءهم وكانوا ثلاثةً عبد يالِيْل ومسعود وحَبيب أولاد عمرو بن عمير الثقفي فعرض عليهم نصرته حتى يؤدي دعوته فردّوا عليه رداً قبيحاً ولم يرَ منهم خيراً وحينذاك طلب منهم أن لا يُشيعوا ذلك عنه كيلا تعلم قريش فيشتدّ أذاهم لأنه استعان عليهم بأعدائهم فلم تفعل ثقيف ما رجاه منهم عليه الصلاة والسلام، بل أرسلوا سفهاءهم وغلمانهم يقفون في وجهه في الطريق ويرمونه بالحجارة، حتى أدموا عقبه وكان زيد بن حارثة يدرأ عنه إلى أن انتهى إلى شجرة كرْم واستظلّ بها وكانت بجوار بستان لعُتبة وشَيبة ابني ربيعة وهما من أعدائه وكانا في البستان فكره رسول الله مكانهما فدعا الله قائلاً اللهمّ إني أشكو إليكَ ضعفَ قُوَّتي وقِلَّةَ حيلتي وهَواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهَّمني أم إلى عدوَ ملكته أمري إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي فلما رآه ابنا ربيعة رَقَّا له وأرسلا إليه بِقِطْفٍ من العنب مع مولى لهما نصراني اسمه عَدَّاس فلما ابتدأ رسول الله r يأكل قال بسم الله الرحمن الرحيم فقال عَدَّاس هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له عليه الصلاة والسلام من أيّ البلاد أنت وما دينك فقال نصراني من نِيْنَوى، فقال له عليه الصلاة والسلام من قرية الرجل الصالح يُونُس بن متَّى؟» قال: وما علمك بيونس؟ فقرأ له من القرآن ما فيه قصة يونس، فلما سمع ذلك عداس أسلم،
الإسراء والمعراج
وقبل الهجرة أكرمه الله بالإسراء والمعراج، أما الإسراء فهو توجهه ليلاً إلى بيت المقدس بإِيْلياء ورجوعه من ليلته، وأما المعراج فهو صعوده إلى العالم العلوي، وقد قال جمهور أهل السنّة: إن ذلك كان بجسمه الشريف، وكانت عائشة تمنع رؤية رسول الله ربه، وتقول: من قال إن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله.
والإسراء، قال تعالى :
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)
وأما المعراج عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله :
(أتيت بالبُراق وهو دابّة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طَرْفه قال: فركبتهحتى أتيتُ بيتَ المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناءٍ من خمرٍ، وإناءٍ من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة)
ثم عُرِجَ بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا بآدم، فرحب بي، ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى ابن مريم فرحبا ودَعَوا لي بخير.
ثم عُرَج بنا إلى السماء الثالثة فذكر مثل الأول، ففتح لنا وإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أُعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير.
ثم عُرِجَ بنا إلى السماء الرابعة فذكر مثله، فإذا أنا بإدريس
فرحب بي ودعا لي بخير. قال تعالى:
(وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً)
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فذكر مثله، فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فذكر مثله، فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فذكر مثله فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه.
في صبيحة ليلة الإسراء جاء جبريل وعلَّم رسول الله كيفية الصلاة وأوقاتها، فيصلي ركعتين إذا ظهر الفجر، وأربع ركعات إذا زالت الشمس ومثلها إذا ضوعف ظل الشيء، وثلاثاً إذا غربت، وأربعاً إذا غاب الشفق الأحمر. وكان عليه الصلاة والسلام قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحاً، ومثلهما مساءً كما كان يفعل إبراهيم عليه السلام.
بدء إسلام الأنصار
ولما جاء الموسم تعّرَض رسول الله لنفر منهم يبلغون الستة، وكلهم من الخزرج وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث من بني النجار، ورافع بن مالك من بني زريق، وقُطْبة بن عامر من بني سَلِمة، وعقبة بن عامر من بني حَرَام، وجابر بن عبد الله من بني عبيد بن عدي، ودعاهم إلى الإسلام وإلى معاونته في تبليغ رسالة ربه، فقال بعضهم لبعض: إنه للنبي الذي كانت تَعِدُكم به يهود فلا يَسْبِقُنَّكُمْ إليه، فآمنوا به وصدّقوه، وقالوا: إنا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك، ووعدوه المقابلة في الموسم المقبل، وهذا هو بَدء الإسلام لعرب يثرب.
العقبة الأولى
فلما كان العام المقبل قدم اثنا عشر رجلاً، منهم عَشَرة من الخزرج، واثنان من الأوس، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث، ورافع بن مالك، وذكوان بن قيس، وعُبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، والعباس بن عبادة، وعقبة بن عامر وقطبة بن عامر، وهؤلاء من الخزرج، وأبو الهيثم بن التَّيِّهان، وعُوَيم بن ساعدة وهما من الأوس، فاجتمعوا به عند العقبة، وأسلموا وبايعوا رسول الله على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على ألا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف، فإن وَفَوا فلهم الجنة، وإن غَشوا من ذلك شيئاً فأمرهم إلى الله عز وجل، إن شاء غفر وإن شاء عذب، وهذه هي العقبة الأولى.
فأرسل لهم عليه الصلاة والسلام مصعب بن عمير العبدري وعبد الله ابن أُم مكتوم وهو ابن خال خديجة يُقرآنهم القرآن، ويفقهانهم في الدين،
العقبة الثانية
ولما كان وقت الحج في العام الذي يلي البيعة الأولى، قدم مكة كثيرون منهم يريدون الحج، وبينهم كثير من مُشركيهم، ولما قابل وفدهم رسول الله، واعدوه المقابلة ليلاً عند العقبة، فأمرهم أن لا يُنبِّهوا في ذلك الوقت نائماً، ولا ينتظروا غائباً، لأن كل هذه الأعمال كانت خفية من قريش كيلا يطّلعوا على الأمر، فيسعَوا في نقض ما أبرم، شأنهم مع رسول الله في أول أمره. ولما فرغ الأنصار من حجهم توجهوا إلى موعدهم كاتمين أمرهم عمّن معهم من المشركين وكان ذلك بعد مضي ثلث الليل الأول فكانوا يتسللون الرجل والرجلين حتى تم عددهم ثلاثة وسبعين رجلاً منهم اثنان وستون من الخزرج وأحد عشر من الأوس ومعهم امرأتان وهما: نُسَيبة بنت كعب من بني النجار وأسماء بنت عمرو من بني سَلمة ووافقهم رسول الله هناك وليس معه إلا عمه العباس بن عبد المطلب وهو على دين قومه ولكن أراد أن يحضر أمر ابن أخيه ليكونَ متوثقاً له فلما اجتمعوا عرَّفهم العباس بأن ابن أخيه لم يزل في مَنَعة من قومه حيث لم يمكِّنوا منه أحداً ممّن أظهر له العداوة والبغضاء وتحملوا من ذلك أعظم الشدة ثم قال لهم: إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممّن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإلا فدعوه بين عشيرته فإنه لبمكان عظيم فقال كبيرهم المتكلم عنهم البَراء بن معرور: والله لو كان لنا في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه ولكنا نريد الوفاء والصدق وبذل مُهَجنا دون رسول الله وحينذاك ابتدأت المبايعة وهي العقبة الثانية فبايعه الرجال على ما طلب وأول من بايع أسعد بن زرارة وقيل البراء بن معرور ثم تخير منهم اثني عشر نقيباً لكل عشيرة منهم واحد تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس وهم: أبو الهيثم بن التَّيِّهان وأسعد بن زرارة وأسيد بن حضير والبراء بن معرور ورافع بن مالك وسعد بن خيثمة وسعد بن الربيع وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وعبد الله بن عمرو وعبادة بن الصامت والمنذر بن عمرو ثم قال لهم: أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريِّين لعيسى ابن مريم وأنا كفيل على قومي.
هجرة المسلمين إلى المدينة
ولما رجع الأنصار إلى المدينة ظهر بينهم الإسلام أكثر من المرة الأولى. أما رسول اللهوأصحابه فازداد عليهم أذى المشركين لما سمعوا أنه حالف قوماً عليهم، فأمر عليه الصلاة والسلام جميع المسلمين بالهجرة إلى المدينة، فصاروا يتسلَّلون خيفة قريش أن تمنعهم.
وأول من خرج أبو سلمة المخزومي زوجُ أم سلمة ومعه زوجه، وكان قومها منعوها منه ولكنهم أطلقوها بعد فَلحقت به. وتتابع المهاجرون فراراً بدينهم ليتمكنوا من عبادة الله الذي امتزج حبّه بلحمهم ودمهم، حتى صاروا لا يعبؤون بمفارقة أوطانهم والابتعاد عن آبائهم ما دام في ذلك رضا الله ورسوله. ولم يبق بمكة منهم إلا أبو بكر وعلي وصهيب وزيد بن حارثة، وقليلون من المستضعفين الذين لم تمكِّنهم حالُهم من الهجرة.
وقد أراد أبو بكر الهجرة فقال له عليه الصلاة والسلام:
«على رِسْلك فإني أرجو أن يؤذن لي»
فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم». فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُر استعداداً لذلك.
دار الندوة
أما قريش فكانوا كأنهم أصيبوا بمَسِّ الشيطان حينما طرق مسامعهم مبايعة الأنصار له على الذَّود عنه حتى الموت، فاجتمع رؤساؤهم وقادتهم في دار الندوة وهي دار قصيّبن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها يتشاورون ما يصنعون في أمر رسول الله حين خافوه. فقال قائل منهم: نخرجه من أرضنا كي نستريح منه، فرُفِض هذا الرأي لأنهم قالوا: إذا خرج اجتمعت حوله الجموع لما يرونه من حلاوة منطقه وعذوبة لفظه. وقال لهم طاغيتهم: بل نقتله، ولنمنع بني أبيه من الأخذ بثأره، نأخذ من كل قبيلة شاباً جلداً يجتمعون أمام داره، فإذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد، فيفترق دمه في القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قريش كلهم بل يرضون بالدية، فأقرّوا هذا الرأي. هذا مكرهم، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) فأعلم نبيه بما دبره الأعداء في سرّهم، وأمره باللحاق بدار هجرته، بدار فيها ينشر الإسلام، ويكون فيها لرسول الله العزة والمنعة. وهذا من الحكمة بمكان عظيم فإنه لو انتشر الإسلام بمكة لقال المبغضون: إن قريشاً أرادوا مُلْكَ العرب، فعمَدوا إلى شخص منهم، وأوعزوا إليه أنْ يدَّعي هذه الدعوى حتى تكون وسيلة لنيل مآربهم، ولكنهم كانوا له أعداء ألدَّاء، آذوه شديد الأذى حتى اختار الله له مفارقة بلادهم والبعد عنهم.
هجرة المصطفى
فتوجه من ساعته إلى صديقه أبي بكر وأعلمه أن الله قد أذِنَ له في الهجرة فسأله أبو بكر الصحبةَ فقال نعم ثم عرض عليه إحدى راحلتيه اللتين كانتا معدَّتين لذلك فجهزهما أحثّ الجهاز وصُنعت لهما سُفْرَة في جِرَاب فقطعت أسماء بنت أبي بكر نِطاقها وربطت به على فم الجراب واستأجرا عبد الله بن أُرَيقط من بني الدِّيل بن بكر وكان هادياً ماهراً وهو على دين كفار قريش فأمِنَاه ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ ثم فارق الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر وواعده المقابلة ليلاً خارج مكة وكانت هذه الليلة هي ليلة استعداد قريش لتنفيذ ما أقرّوا عليه فاجتمعوا حول باب الدار ورسول الله r داخله فلما جاء ميعاد الخروج أمر ابن عمه عليّاً بالمبيت مكانه كيلا يقع الشك في وجوده أثناء الليل فإنهم كانوا يرددون النظر من شقوق الباب ليعلموا وجوده ثم سجَّى عليَّاً ببرده وخرج على القوم وهو يقرأ (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)أما المشركون فلما علموا بفساد مكرهم وأنهم إنما باتوا يحرسون علي بن أبي طالب لا محمد بن عبد الله هاجت عواطفهم فأرسلوا الطلب من كل جهة وجعلوا الجوائز لمن يأتي بمحمد أو يدل عليه، وقد وصلوا في طلبهم إلى ذلك الغار الذي فيه طِلْبَتُهم بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه لنظرهما حتى أبكى ذلك أبا بكر فقال له عليه الصلاة والسلام (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم يَحِنْ لأحد منهم التفاتة إلى ذلك الغار بل صار أعدى الأعداء أمية بن خلف يبعد لهم اختفاء المطلوبين في مثل هذا الغار.
النزول بقُباء
فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف بقباء والذي حققه المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان في اليوم الثاني من ربيع الأول الذي يوافق 20 سبتمبر سنة 622، وهذا أول تاريخ جديد لظهور الإسلام بعد أن مضى عليه ثلاث عشرة سنة، وهو مضيق عليه من مشركي قريش ورسول الله ممنوع من الجهر بعبادة ربه أما الآن فقد آواه الله هو وصحابته رضوان الله عليهم بعد أن كانوا قليلاً يتخطفهم الناس.
هجرة الأنبياء
وبهذه الهجرة تمّت لرسولنا سُنَّةُ إخوانه من الأنبياء من قبله فما من نبي منهم إلا نَبَتْ به بلاد نشأته، فهاجر عنها من إبراهيم أبي الأنبياء، وخليل الله، إلى عيسى كلمة الله وروحه، كلهم على عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم أهينوا من عشائرهم، فصبروا ليكونوا مثالاً لمن يأتي بعدهم من متّبعيهم في الثبات والصبر على المكاره ما دام ذلك في طاعة الله.
فَسَلْ مصر وتاريخها تُنبئك عن إسرائيل (يعقوب) وبنيه أنهم هاجروا إليها حينما رأوا من بَنِيها ترحيباً بهم وتركهم وما يعبدون إكراماً ليوسف وحكمته. ولما مضت سنون، نسي فيها المصريون تدبير يوسف وفضله عليهم، فاضطهدوا بني إسرائيل وآذوهم، خرج بهم موسى وهارون ليتمكنوا من إعطاء الله حقه في عبادته وهرب المسيح عليه السلام من اليهود حينما كذَّبوه، فأرادوا الفتك به حتى كان من ضمن تعاليمه لتلاميذه طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السموات ثم قال بعد افرحوا وتهلّلوا لأن أجركم عظيم في السموات فإنهم طردوا الأنبياء الذين قبلكم وسَل القرى التي حلّت بها نقمة الله بكفر أهلها كديار لوط وعاد وثمود تنبئك عن مُهَاجَرة الأنبياء منها قبل حلول النقمة فلا غرابة أن هاجر عليه الصلاة والسلام من بلاد منعه أهلها من تتميم ما أراده الله
{سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)
أعمال مكة
هذا، ولنبيّن لك مجمل ما دعا إليه الرسول عليه الصلاة والسلام بمكة من أصول الدين وذلك أمران الأول الاعتقاد بوحدانية الله وأن لا يُشرك معه في العبادة غيره سواء كان ذلك الغير صنماً كما يفعل مُشرِكو مكة أو أباً أو زوجةً أو بنتاً كما عليه بعض الطوائف الأخرى كالنصارى ولولا الاعتقاد بوحدانية الله ما كَلَّف أحد نفسه تكاليف الحياة من آداب الأخلاق بل كان يسير فيما تأمره به نفسه من شهواتها وملذاتها ما دام ذلك خافياً عن الناس الثاني الاعتقاد بالبعث والنشور وأن هناك يوماً ثانياً للإنسان يُجازى فيه على ما صنعه في الدنيا إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر وعلى هذين الأمرين جاء غالب الآي المكيّة فقلّما نرى سورة من سور مكة إلا مشحونة بالاستدلال عليهما وتوبيخ من تركهما وكل ذلك بأساليب تأخذ بالعقل وبراهين لا تحتاج لفلسفة الذين يشغلون أنفسهم بما لا طائل تحته ممّا يضيع الوقت سدًى ونزل على رسول الله بمكة من القرآن معظمه وهو ما عدا ثلاثاً وعشرين سورة منه وهي البقرة آل عمران النساء المائدة الأنفال التوبة الحج النور الأحزاب القتال الفتح الحجرات الحديد المجادلة الحشر الممتحنة الصف الجمعة المنافقون التغابن الطلاق التحريم النصر هذه كلها مدنية وباقي القرآن مكّي ولما نزل عليه الصلاة والسلام بقُباء نزل على شيخ بني عمرو كُلثوم بن الهدم وكان يجلس للناس ويتحدث لهم في بيت سعد بن خَيثمة لأَنَه كان عزباً ونزل أبو بكر بالسُّنْح محلة بالمدينة على خارجة بن زيد من بني حارث من الخزرج.
مسجد قُباء
وأقام رسول الله بقباء ليالي أسّس فيها مسجد قباء الذي وصفه الله بأنه مسجد أُسس على التقوى من أول يوم، وصلَّى فيه عليه الصلاة والسلام بمن معه من الأنصار والمهاجرين، وهم آمنون مطمئنون، وكانت المساجد على عهد رسول الله في غاية من البساطة ليس فيها شيء مما اعتاده بُناة المساجد في القرون الأخيرة، لأن الرسول وأصحابه لم يكن جُلُّ همّهم إلا منصرفاً لتزيين القلوب، وتنظيفها من حظ الشيطان، فكان سور المسجد لا يتجاوز القامة وفوقه مظلة يُتَّقى بها حرّ الشمس.
الوصول إلى المدينة
ثم تحوَّل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة والأنصار محيطون به متقلدي سيوفهم، وهنا حدّث ولا حَرَج عن سرور أهل المدينة، فكان يومُ تحوله إليهم يوماً سعيداً لم يُروا فرحين بشيء فرحهم برسول الله r، وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البَدرُ علينا من ثَنِيَّاتِ الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع أيها المبعوثُ فينا جئت بالأمرِ المُطاع
وكان الناس يسيرون وراء رسول الله ما بين ماشٍ وراكب يتنازعون زمام ناقته، كلٌّ يريد أن يكون نزيله.
أول جمعة
وأدركته عليه الصلاة والسلام صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، فنزل وصلاّها وهذه أول جمعة له عليه الصلاة والسلام، وأول خطبة خطبها عليه الصلاة والسلام حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تَعْلُمنَّ والله ليُصْعَقَنَّ أحدُكم، ثم ليَدَعَنَّ غَنمه ليس لها راعٍ، ثم ليقولَنَّ له ربه ليس له تَرجمان ولا حاجب يحجبه دونه : ألم يأتك رسولي فبلَّغك، وآتيتك مالاً، وأفضَلتُ عليك؟ فما قدَّمْتَ لنفسك؟ فَلَينظُرنَّ يميناً وشِمالاً فلا يرى شيئاً، ثم ليَنظرنَّ قُدَّامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يَقِيَ وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة؛ فإنّ بها تُجْزَى الحسنةُ عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
النزول على أبي أيوب
ثم ساروا وكلما مرّوا على دار من دور الأنصار يتضرّعُ إليه أهلها بأن ينزل عندهم ويأخذون بزمام الناقة، فيقول: «دعوها فإنها مأمورة»، ولم تَزَل سائرةً حتى أتت بِفنَاء بني عدي بن النجار وهم أخواله الذين تزوج منهم هاشم جده فبركت بمحلة من محلاتهم أمام دار أبي أيوب الأنصاري واسمه خالد بن زيد وذلك مَحل مسجده الشريف فقال عليه الصلاة والسلام: ههنا المنزل إن شاء الله
(رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ)
فاحتمل أبو أيوب رَحْله ووضعه في منزله وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام ناقته فكانت عنده، وخرجت ولائد بني النجار يقلن:
نَحْنُ جَوارٍ من بني النَّجَّارِ يا حبّذا محمدٌ مِنْ جَارِ
فخرج إليهنّ رسول الله r فقال أتحببنني فقلن نعم فقال الله يعلم أن قلبي يحبكن
واختار عليه الصلاة والسلام النزول في الدَّوْرِ الأسفل من دار أبي أيوب ليكون أريح لزائريه ولكن لم يرضَ t ذلك كرامة لرسول الله r لما يمكن أن يصيبه من التراب الذي يُحدِثه وطء الأقدام أو الماء الذي يهراق فقد اتفق أن كُسرت من زوجته جرّة ماء بالليل فقام هو وهي بقطيفتهما التي ليس لهما غيرُها يمسحان الماء خوفاً على رسول الله rولذلك لم يَزَلْ أبو أيوب يستعطفه حتى كان في العِلْو
وكانت تأتيه الجِفَانُ كل ليلة من سرَاة الأنصار كسعد بن عبادة وأسعد بن زرارة وأُم زيد بن ثَابت فما من ليلة إلا وعلى بابه الثلاث أو الأربع من جفان الثريد.
نزول المهاجرين
ولما تحول مع رسول الله أغلب المهاجرين تنافس فيهم الأنصار فحكَّموا القرعة بينهم فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقُرعة.
أُخُوَّةُ الإسلام
ومن يتأمل إلى هذه المحبة التي يستحيل أن تكون بتأثير بشر بل بفضل من الله ورحمته يفهم كيف انتصر هؤلاء الأقوام على معانديهم من المشركين وأهل الكتاب مع قلّة العَدد والعُدد
وكان الأنصار يؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم
قال تعالى
(وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ
وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
وهذا أعلى درجات الأخوة وكل ذلك كانوا يرونه قليلاً بالنسبة لما وجب عليهم لإخوانهم فإن رسول الله r ليُمَكِّنَ بينهم الإخاء آخى بين المهاجرين والأنصار فكان كل أنصاري ونزيلُه أخوين في الله[/rtl]
ومن العبث أن نكلف القلم أن يوضّح للقارئ أن هذه الأخوة كانت أرقى بكثير من الأخوة العصبية بل نَكِلُ ذلك للإحساس الإسلامي فإنه أفصح منطقاً من القلم
وكان هذا الإخاء على المواساة والحق وأن يتوارثوا بعد الموت دون ذوي الأرحام وكان عليه الصلاة والسلام يقول لكل اثنين تآخيا في الله أخَوين أخوين ودام هذا الميراث إلى أن أنزل الله سبحانه قوله
(وَأُوْلُو الاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ).
وفي ذلك الوقت أسلم الشهم الهمام عمر بن الخطاب العدوي القرشي بعد ما كان عليه من كراهية المسلمين وشدة أذاهم. قالت ليلى إحدى المهاجرات لأرض الحبشة مع زوجها: كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما ركبتُ بعيري أُريد أن أتوجه إلى أرض الحبشة إذا أنا به، فقال لي: إلى أين يا أُم عبد الله؟ فقلت: قد آذيتمونا في ديننا، نذهبُ في أرض الله حيث لا نؤذى، فقال: صحبكم الله، فلما جاء زوجي عامر أخبرته بما رأيت من رِقَّةِ عمر، فقال: ترجين أن يُسْلم؟ والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب وذلك لما كان يراه من قسوته وشدته على المسلمين، ولكن حصلت له بركة دعوة المصطفى ، فإنه قال قبيل إسلامه: «اللهم أعِزّ الإسلام بعمر».
رجوع مهاجري الحبشة
وبعد ثلاثة أشهر من خروج مهاجري الحبشة رجعوا إلى مكة حيث لا تتيسر لهم الإقامة فيها لأنهم قليلو العدد وفي الكثرة بعض الأُنس وأَضِف إلى ذلك أنهم أشراف قريش ومعهم نساؤهم، وهؤلاء لا يطيب لهم عيش في دار غربة بهذه الحالة.
وقد أُولع بعض المؤرخين بحكاية يجعلونها سبباً في رجوع مهاجري الحبشة، وهي أنه بلغهم إسلام قومهم حينما قرأ عليهم الرسول، وتكلم فيها كلاماً حسناً عن آلهتهم حيث قال بعد: (أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19) وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى)
وهذا مما لا تجوز روايته إلا من قليلي الإدراك الذين ينقلون كل ما وجدوه غير متثبتين من صحته، وها نحن أُولاء نسوق لك أدلة النقل والعقل على بطلان ما ذكر.
وأما المتن فليس أصحاب رسول الله r ولا المشركون مجانين حتى يسمعوا مدحاً أثناء ذم ويجوز ذلك عليهم، فبعد ذكر الأصنام قال:
(إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآء سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ).
فالكلام غير مُنْتَظم، ولو كان ذلك قد حصل لاتَّخذه الكفار عليه حجة يحاجّونه بها وقت الخصام، وهم من نعرفهم من العناد فيما ليس فيه أدنى حجة، فكيف بهذه؟ وليس ذلك القيل أقل من تحويل القبلة إلى الكعبة، وهذا قالوا فيه ما قالوا حتى سمَّاهم الله سفهاء قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَآء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا}
ولكن لم يُسمع عن أي واحد من رجالاتهم والمتصدرين للعناد منهم أن قال: ما لك ذَممتَ آلهتنا بعد أن مدحتها وكان ذلك أولى لهم من تجريد السيوف وبذل مُهج الرجال رواه عبد الله بن مسعود أن النبي قرأ النجم فسجد وسجد من كان معه إلا رجلا أخذ كفاً من حصىً وضعه على جبهته وقال يكفيني هذا فرأيته قتل بعد كافرا وليس في الحديث أي دلالة على أن الذين سجدوا معه هم مشركون بل الذي يفيده قوله فرأيته قتل بعد كافرا أنه كان مسلما ثم رأيته ارتد وهذا ما حصل من بعض ضعاف القلوب الذين لم يتحملوا الأذى فكفروا منهم علي بن أمية بن خلف
هجرة الحبشة الثانية
وبعد دخول الرسول وقومِهِ الشِّعْبَ أمر جميع المسلمين أن يهاجروا للحبشة حتى يساعد بعضهم بعضاً على الاغتراب فهاجر معظمهم وكانوا نحو ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة وكان من الرجال جعفر بن أبي طالب وزوجه أسماء بنت عُمَيْس والمقداد بن الأسود وعبد الله بن مسعود وعبيد الله بن جحش وامرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان وتوجه لهم الذين أسلموا من جهة اليمن وهم الأشعريون أبو موسى وبنو عمه ولما رأتْ قريش ذلك أرسلت في أثرهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدايا إلى النجاشي ليُسَلِّم المسلمين فرجعا شَرَّ رجعة ولم ينالا من النجاشي إلا إهانة لما خاطبوه به من إخفار ذمته في قوم لاذوا به أما بنو هاشم فمكثوا في الشعب قريباً من ثلاث سنوات في شدة الجهد والبلاء لا يصلهم شيء من الطعام إلا خفية.
وفاة خديجة
وبعد خروجه عليه الصلاة والسلام من الشعب بقليل وقبل الهجرة بثلاث سنين توفيت خديجة بنت خويلد زوجهy وكان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يذكرها ويترحم عليها ولا غرابة فهي أول نفس زكية صدَّقت رسول الله فيما جاء به عن ربه وقد جاء منها بأولاده كلهم ما عدا إبراهيم.
فمنها زينب وهي أكبر بناته تزوجها في الجاهلية أبو العاص بن الربيع وأعقب منها أمامة التي تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة.
ومنها رقيّة وأُم كلثوم تزوجهما عثمان بن عفان الأولى بمكة قبل الهجرة وهاجر بها إلى الحبشة والثانية بالمدينة بعد أَنْ ماتت أختها.
ومنها فاطمة وهي أصغر بناته تزوجها علي بن أبي طالب،
ومنها القاسم وكان به يكنى رسول الله r وعبد الله الملقب بالطيب والطاهر وقد جاءت خديجة بأولاد توفّوا صغاراً ولم يعش بعد رسول الله r من أولاده إلاّ فاطمة عاشت بعده قليلاً ولما توفيت خديجة حزن عليها رسول الله r حزناً شديداً لما كانت عليه من الرقة لرسول اللهr ومحاجزة الكفار عنه لما لها من الجاه في عشيرتها بني أسد،
زواج سودة
وعقد عليه الصلاة والسلام في الشهر الذي ماتت فيه خديجة على سَوْدة بنت زَمْعَة العامرية القرشية بعد أن توفي عنها زوجها وابن عمها السكران بن عمرو وقد كانت آمنت بالله وبرسوله وخالفت أقاربها وبني عمها وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة في المرة الثانية خوف الفتنة وعقب رجوعه من هجرته توفي عنها فلم يكن ثم أجمل مما صنعه الرسول rبزوج رجل آمن به ولو تركت لقومها مع ما هم عليه من الغلظة وكراهة الإسلام لفتنوها وكرمُ نسبها في قومها يمنعها من التزوّج برجل أقل منها نسباً وشرفاً.
زواج عائشة
بعد ذلك بشهر عقد على عائشة بنت صديقه أبي بكر وهي لا تتجاوز السابعة من عمرها، ولم يتزوج عليه الصلاة والسلام بكراً غيرها، ودخل عليها بالمدينة، أما سَودةُ فدخل عليها بمكة.
وفاة أبي طالب
وبعد وفاة خديجة بنحو شهر، توفي عمه أبو طالب، الذي كان يمنعه من أذى أعدائه، ومع أنه كان لا يُكَذِّب رسول الله فيما جاء به بل يعتقد صدقه لم ينطق بالشهادتين حتى آخر لحظة من حياته، وفيه نزل:
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
وقد سمى رسول الله هذا العام الذي فقد فيه زوجه وعمه عام الحزن.
ولما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله ما لم يمكنها نيله في حياة أبي طالب، واشتد الأمر عليه حتى كانوا ينثرون التراب على رأسه وهو سائر، ويضعون أوساخ الشاة عليه في صلاته، وتعلقت به كفار قريش مرة يتجاذبونه ويقولون له: أنت الذي تريد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ فما تقدم أحد من المسلمين حتى يخلصه منهم لما هم عليه من الضعف .
هجرة الطائف
فلما رأى عليه الصلاة والسلام استهانة قريش به أراد أن يتوجه إلى ثقيف بالطائف يرجو منهم نصرته على قومه ومساعدته حتى يتمّم أمر ربه لأنهم أقرب الناس إلى مكة وله فيهم خؤولة فإن أم هاشم بن عبد مناف عاتكة السلمية من بني سُلَيم بن منصور وهم حلفاء ثقيف فلما توجه إليهم ومعه مولاه زيد بن حارثة قابل رؤساءهم وكانوا ثلاثةً عبد يالِيْل ومسعود وحَبيب أولاد عمرو بن عمير الثقفي فعرض عليهم نصرته حتى يؤدي دعوته فردّوا عليه رداً قبيحاً ولم يرَ منهم خيراً وحينذاك طلب منهم أن لا يُشيعوا ذلك عنه كيلا تعلم قريش فيشتدّ أذاهم لأنه استعان عليهم بأعدائهم فلم تفعل ثقيف ما رجاه منهم عليه الصلاة والسلام، بل أرسلوا سفهاءهم وغلمانهم يقفون في وجهه في الطريق ويرمونه بالحجارة، حتى أدموا عقبه وكان زيد بن حارثة يدرأ عنه إلى أن انتهى إلى شجرة كرْم واستظلّ بها وكانت بجوار بستان لعُتبة وشَيبة ابني ربيعة وهما من أعدائه وكانا في البستان فكره رسول الله مكانهما فدعا الله قائلاً اللهمّ إني أشكو إليكَ ضعفَ قُوَّتي وقِلَّةَ حيلتي وهَواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهَّمني أم إلى عدوَ ملكته أمري إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي فلما رآه ابنا ربيعة رَقَّا له وأرسلا إليه بِقِطْفٍ من العنب مع مولى لهما نصراني اسمه عَدَّاس فلما ابتدأ رسول الله r يأكل قال بسم الله الرحمن الرحيم فقال عَدَّاس هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له عليه الصلاة والسلام من أيّ البلاد أنت وما دينك فقال نصراني من نِيْنَوى، فقال له عليه الصلاة والسلام من قرية الرجل الصالح يُونُس بن متَّى؟» قال: وما علمك بيونس؟ فقرأ له من القرآن ما فيه قصة يونس، فلما سمع ذلك عداس أسلم،
الإسراء والمعراج
وقبل الهجرة أكرمه الله بالإسراء والمعراج، أما الإسراء فهو توجهه ليلاً إلى بيت المقدس بإِيْلياء ورجوعه من ليلته، وأما المعراج فهو صعوده إلى العالم العلوي، وقد قال جمهور أهل السنّة: إن ذلك كان بجسمه الشريف، وكانت عائشة تمنع رؤية رسول الله ربه، وتقول: من قال إن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله.
والإسراء، قال تعالى :
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)
وأما المعراج عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله :
(أتيت بالبُراق وهو دابّة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طَرْفه قال: فركبتهحتى أتيتُ بيتَ المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناءٍ من خمرٍ، وإناءٍ من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة)
ثم عُرِجَ بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا بآدم، فرحب بي، ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى ابن مريم فرحبا ودَعَوا لي بخير.
ثم عُرَج بنا إلى السماء الثالثة فذكر مثل الأول، ففتح لنا وإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أُعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير.
ثم عُرِجَ بنا إلى السماء الرابعة فذكر مثله، فإذا أنا بإدريس
فرحب بي ودعا لي بخير. قال تعالى:
(وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً)
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فذكر مثله، فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فذكر مثله، فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فذكر مثله فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه.
في صبيحة ليلة الإسراء جاء جبريل وعلَّم رسول الله كيفية الصلاة وأوقاتها، فيصلي ركعتين إذا ظهر الفجر، وأربع ركعات إذا زالت الشمس ومثلها إذا ضوعف ظل الشيء، وثلاثاً إذا غربت، وأربعاً إذا غاب الشفق الأحمر. وكان عليه الصلاة والسلام قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحاً، ومثلهما مساءً كما كان يفعل إبراهيم عليه السلام.
بدء إسلام الأنصار
ولما جاء الموسم تعّرَض رسول الله لنفر منهم يبلغون الستة، وكلهم من الخزرج وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث من بني النجار، ورافع بن مالك من بني زريق، وقُطْبة بن عامر من بني سَلِمة، وعقبة بن عامر من بني حَرَام، وجابر بن عبد الله من بني عبيد بن عدي، ودعاهم إلى الإسلام وإلى معاونته في تبليغ رسالة ربه، فقال بعضهم لبعض: إنه للنبي الذي كانت تَعِدُكم به يهود فلا يَسْبِقُنَّكُمْ إليه، فآمنوا به وصدّقوه، وقالوا: إنا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك، ووعدوه المقابلة في الموسم المقبل، وهذا هو بَدء الإسلام لعرب يثرب.
العقبة الأولى
فلما كان العام المقبل قدم اثنا عشر رجلاً، منهم عَشَرة من الخزرج، واثنان من الأوس، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث، ورافع بن مالك، وذكوان بن قيس، وعُبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، والعباس بن عبادة، وعقبة بن عامر وقطبة بن عامر، وهؤلاء من الخزرج، وأبو الهيثم بن التَّيِّهان، وعُوَيم بن ساعدة وهما من الأوس، فاجتمعوا به عند العقبة، وأسلموا وبايعوا رسول الله على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على ألا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف، فإن وَفَوا فلهم الجنة، وإن غَشوا من ذلك شيئاً فأمرهم إلى الله عز وجل، إن شاء غفر وإن شاء عذب، وهذه هي العقبة الأولى.
فأرسل لهم عليه الصلاة والسلام مصعب بن عمير العبدري وعبد الله ابن أُم مكتوم وهو ابن خال خديجة يُقرآنهم القرآن، ويفقهانهم في الدين،
العقبة الثانية
ولما كان وقت الحج في العام الذي يلي البيعة الأولى، قدم مكة كثيرون منهم يريدون الحج، وبينهم كثير من مُشركيهم، ولما قابل وفدهم رسول الله، واعدوه المقابلة ليلاً عند العقبة، فأمرهم أن لا يُنبِّهوا في ذلك الوقت نائماً، ولا ينتظروا غائباً، لأن كل هذه الأعمال كانت خفية من قريش كيلا يطّلعوا على الأمر، فيسعَوا في نقض ما أبرم، شأنهم مع رسول الله في أول أمره. ولما فرغ الأنصار من حجهم توجهوا إلى موعدهم كاتمين أمرهم عمّن معهم من المشركين وكان ذلك بعد مضي ثلث الليل الأول فكانوا يتسللون الرجل والرجلين حتى تم عددهم ثلاثة وسبعين رجلاً منهم اثنان وستون من الخزرج وأحد عشر من الأوس ومعهم امرأتان وهما: نُسَيبة بنت كعب من بني النجار وأسماء بنت عمرو من بني سَلمة ووافقهم رسول الله هناك وليس معه إلا عمه العباس بن عبد المطلب وهو على دين قومه ولكن أراد أن يحضر أمر ابن أخيه ليكونَ متوثقاً له فلما اجتمعوا عرَّفهم العباس بأن ابن أخيه لم يزل في مَنَعة من قومه حيث لم يمكِّنوا منه أحداً ممّن أظهر له العداوة والبغضاء وتحملوا من ذلك أعظم الشدة ثم قال لهم: إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممّن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإلا فدعوه بين عشيرته فإنه لبمكان عظيم فقال كبيرهم المتكلم عنهم البَراء بن معرور: والله لو كان لنا في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه ولكنا نريد الوفاء والصدق وبذل مُهَجنا دون رسول الله وحينذاك ابتدأت المبايعة وهي العقبة الثانية فبايعه الرجال على ما طلب وأول من بايع أسعد بن زرارة وقيل البراء بن معرور ثم تخير منهم اثني عشر نقيباً لكل عشيرة منهم واحد تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس وهم: أبو الهيثم بن التَّيِّهان وأسعد بن زرارة وأسيد بن حضير والبراء بن معرور ورافع بن مالك وسعد بن خيثمة وسعد بن الربيع وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وعبد الله بن عمرو وعبادة بن الصامت والمنذر بن عمرو ثم قال لهم: أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريِّين لعيسى ابن مريم وأنا كفيل على قومي.
هجرة المسلمين إلى المدينة
ولما رجع الأنصار إلى المدينة ظهر بينهم الإسلام أكثر من المرة الأولى. أما رسول اللهوأصحابه فازداد عليهم أذى المشركين لما سمعوا أنه حالف قوماً عليهم، فأمر عليه الصلاة والسلام جميع المسلمين بالهجرة إلى المدينة، فصاروا يتسلَّلون خيفة قريش أن تمنعهم.
وأول من خرج أبو سلمة المخزومي زوجُ أم سلمة ومعه زوجه، وكان قومها منعوها منه ولكنهم أطلقوها بعد فَلحقت به. وتتابع المهاجرون فراراً بدينهم ليتمكنوا من عبادة الله الذي امتزج حبّه بلحمهم ودمهم، حتى صاروا لا يعبؤون بمفارقة أوطانهم والابتعاد عن آبائهم ما دام في ذلك رضا الله ورسوله. ولم يبق بمكة منهم إلا أبو بكر وعلي وصهيب وزيد بن حارثة، وقليلون من المستضعفين الذين لم تمكِّنهم حالُهم من الهجرة.
وقد أراد أبو بكر الهجرة فقال له عليه الصلاة والسلام:
«على رِسْلك فإني أرجو أن يؤذن لي»
فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم». فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُر استعداداً لذلك.
دار الندوة
أما قريش فكانوا كأنهم أصيبوا بمَسِّ الشيطان حينما طرق مسامعهم مبايعة الأنصار له على الذَّود عنه حتى الموت، فاجتمع رؤساؤهم وقادتهم في دار الندوة وهي دار قصيّبن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها يتشاورون ما يصنعون في أمر رسول الله حين خافوه. فقال قائل منهم: نخرجه من أرضنا كي نستريح منه، فرُفِض هذا الرأي لأنهم قالوا: إذا خرج اجتمعت حوله الجموع لما يرونه من حلاوة منطقه وعذوبة لفظه. وقال لهم طاغيتهم: بل نقتله، ولنمنع بني أبيه من الأخذ بثأره، نأخذ من كل قبيلة شاباً جلداً يجتمعون أمام داره، فإذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد، فيفترق دمه في القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قريش كلهم بل يرضون بالدية، فأقرّوا هذا الرأي. هذا مكرهم، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) فأعلم نبيه بما دبره الأعداء في سرّهم، وأمره باللحاق بدار هجرته، بدار فيها ينشر الإسلام، ويكون فيها لرسول الله العزة والمنعة. وهذا من الحكمة بمكان عظيم فإنه لو انتشر الإسلام بمكة لقال المبغضون: إن قريشاً أرادوا مُلْكَ العرب، فعمَدوا إلى شخص منهم، وأوعزوا إليه أنْ يدَّعي هذه الدعوى حتى تكون وسيلة لنيل مآربهم، ولكنهم كانوا له أعداء ألدَّاء، آذوه شديد الأذى حتى اختار الله له مفارقة بلادهم والبعد عنهم.
هجرة المصطفى
فتوجه من ساعته إلى صديقه أبي بكر وأعلمه أن الله قد أذِنَ له في الهجرة فسأله أبو بكر الصحبةَ فقال نعم ثم عرض عليه إحدى راحلتيه اللتين كانتا معدَّتين لذلك فجهزهما أحثّ الجهاز وصُنعت لهما سُفْرَة في جِرَاب فقطعت أسماء بنت أبي بكر نِطاقها وربطت به على فم الجراب واستأجرا عبد الله بن أُرَيقط من بني الدِّيل بن بكر وكان هادياً ماهراً وهو على دين كفار قريش فأمِنَاه ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ ثم فارق الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر وواعده المقابلة ليلاً خارج مكة وكانت هذه الليلة هي ليلة استعداد قريش لتنفيذ ما أقرّوا عليه فاجتمعوا حول باب الدار ورسول الله r داخله فلما جاء ميعاد الخروج أمر ابن عمه عليّاً بالمبيت مكانه كيلا يقع الشك في وجوده أثناء الليل فإنهم كانوا يرددون النظر من شقوق الباب ليعلموا وجوده ثم سجَّى عليَّاً ببرده وخرج على القوم وهو يقرأ (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)أما المشركون فلما علموا بفساد مكرهم وأنهم إنما باتوا يحرسون علي بن أبي طالب لا محمد بن عبد الله هاجت عواطفهم فأرسلوا الطلب من كل جهة وجعلوا الجوائز لمن يأتي بمحمد أو يدل عليه، وقد وصلوا في طلبهم إلى ذلك الغار الذي فيه طِلْبَتُهم بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه لنظرهما حتى أبكى ذلك أبا بكر فقال له عليه الصلاة والسلام (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم يَحِنْ لأحد منهم التفاتة إلى ذلك الغار بل صار أعدى الأعداء أمية بن خلف يبعد لهم اختفاء المطلوبين في مثل هذا الغار.
النزول بقُباء
فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف بقباء والذي حققه المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان في اليوم الثاني من ربيع الأول الذي يوافق 20 سبتمبر سنة 622، وهذا أول تاريخ جديد لظهور الإسلام بعد أن مضى عليه ثلاث عشرة سنة، وهو مضيق عليه من مشركي قريش ورسول الله ممنوع من الجهر بعبادة ربه أما الآن فقد آواه الله هو وصحابته رضوان الله عليهم بعد أن كانوا قليلاً يتخطفهم الناس.
هجرة الأنبياء
وبهذه الهجرة تمّت لرسولنا سُنَّةُ إخوانه من الأنبياء من قبله فما من نبي منهم إلا نَبَتْ به بلاد نشأته، فهاجر عنها من إبراهيم أبي الأنبياء، وخليل الله، إلى عيسى كلمة الله وروحه، كلهم على عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم أهينوا من عشائرهم، فصبروا ليكونوا مثالاً لمن يأتي بعدهم من متّبعيهم في الثبات والصبر على المكاره ما دام ذلك في طاعة الله.
فَسَلْ مصر وتاريخها تُنبئك عن إسرائيل (يعقوب) وبنيه أنهم هاجروا إليها حينما رأوا من بَنِيها ترحيباً بهم وتركهم وما يعبدون إكراماً ليوسف وحكمته. ولما مضت سنون، نسي فيها المصريون تدبير يوسف وفضله عليهم، فاضطهدوا بني إسرائيل وآذوهم، خرج بهم موسى وهارون ليتمكنوا من إعطاء الله حقه في عبادته وهرب المسيح عليه السلام من اليهود حينما كذَّبوه، فأرادوا الفتك به حتى كان من ضمن تعاليمه لتلاميذه طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السموات ثم قال بعد افرحوا وتهلّلوا لأن أجركم عظيم في السموات فإنهم طردوا الأنبياء الذين قبلكم وسَل القرى التي حلّت بها نقمة الله بكفر أهلها كديار لوط وعاد وثمود تنبئك عن مُهَاجَرة الأنبياء منها قبل حلول النقمة فلا غرابة أن هاجر عليه الصلاة والسلام من بلاد منعه أهلها من تتميم ما أراده الله
{سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)
أعمال مكة
هذا، ولنبيّن لك مجمل ما دعا إليه الرسول عليه الصلاة والسلام بمكة من أصول الدين وذلك أمران الأول الاعتقاد بوحدانية الله وأن لا يُشرك معه في العبادة غيره سواء كان ذلك الغير صنماً كما يفعل مُشرِكو مكة أو أباً أو زوجةً أو بنتاً كما عليه بعض الطوائف الأخرى كالنصارى ولولا الاعتقاد بوحدانية الله ما كَلَّف أحد نفسه تكاليف الحياة من آداب الأخلاق بل كان يسير فيما تأمره به نفسه من شهواتها وملذاتها ما دام ذلك خافياً عن الناس الثاني الاعتقاد بالبعث والنشور وأن هناك يوماً ثانياً للإنسان يُجازى فيه على ما صنعه في الدنيا إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر وعلى هذين الأمرين جاء غالب الآي المكيّة فقلّما نرى سورة من سور مكة إلا مشحونة بالاستدلال عليهما وتوبيخ من تركهما وكل ذلك بأساليب تأخذ بالعقل وبراهين لا تحتاج لفلسفة الذين يشغلون أنفسهم بما لا طائل تحته ممّا يضيع الوقت سدًى ونزل على رسول الله بمكة من القرآن معظمه وهو ما عدا ثلاثاً وعشرين سورة منه وهي البقرة آل عمران النساء المائدة الأنفال التوبة الحج النور الأحزاب القتال الفتح الحجرات الحديد المجادلة الحشر الممتحنة الصف الجمعة المنافقون التغابن الطلاق التحريم النصر هذه كلها مدنية وباقي القرآن مكّي ولما نزل عليه الصلاة والسلام بقُباء نزل على شيخ بني عمرو كُلثوم بن الهدم وكان يجلس للناس ويتحدث لهم في بيت سعد بن خَيثمة لأَنَه كان عزباً ونزل أبو بكر بالسُّنْح محلة بالمدينة على خارجة بن زيد من بني حارث من الخزرج.
مسجد قُباء
وأقام رسول الله بقباء ليالي أسّس فيها مسجد قباء الذي وصفه الله بأنه مسجد أُسس على التقوى من أول يوم، وصلَّى فيه عليه الصلاة والسلام بمن معه من الأنصار والمهاجرين، وهم آمنون مطمئنون، وكانت المساجد على عهد رسول الله في غاية من البساطة ليس فيها شيء مما اعتاده بُناة المساجد في القرون الأخيرة، لأن الرسول وأصحابه لم يكن جُلُّ همّهم إلا منصرفاً لتزيين القلوب، وتنظيفها من حظ الشيطان، فكان سور المسجد لا يتجاوز القامة وفوقه مظلة يُتَّقى بها حرّ الشمس.
الوصول إلى المدينة
ثم تحوَّل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة والأنصار محيطون به متقلدي سيوفهم، وهنا حدّث ولا حَرَج عن سرور أهل المدينة، فكان يومُ تحوله إليهم يوماً سعيداً لم يُروا فرحين بشيء فرحهم برسول الله r، وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البَدرُ علينا من ثَنِيَّاتِ الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع أيها المبعوثُ فينا جئت بالأمرِ المُطاع
وكان الناس يسيرون وراء رسول الله ما بين ماشٍ وراكب يتنازعون زمام ناقته، كلٌّ يريد أن يكون نزيله.
أول جمعة
وأدركته عليه الصلاة والسلام صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، فنزل وصلاّها وهذه أول جمعة له عليه الصلاة والسلام، وأول خطبة خطبها عليه الصلاة والسلام حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تَعْلُمنَّ والله ليُصْعَقَنَّ أحدُكم، ثم ليَدَعَنَّ غَنمه ليس لها راعٍ، ثم ليقولَنَّ له ربه ليس له تَرجمان ولا حاجب يحجبه دونه : ألم يأتك رسولي فبلَّغك، وآتيتك مالاً، وأفضَلتُ عليك؟ فما قدَّمْتَ لنفسك؟ فَلَينظُرنَّ يميناً وشِمالاً فلا يرى شيئاً، ثم ليَنظرنَّ قُدَّامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يَقِيَ وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة؛ فإنّ بها تُجْزَى الحسنةُ عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
النزول على أبي أيوب
ثم ساروا وكلما مرّوا على دار من دور الأنصار يتضرّعُ إليه أهلها بأن ينزل عندهم ويأخذون بزمام الناقة، فيقول: «دعوها فإنها مأمورة»، ولم تَزَل سائرةً حتى أتت بِفنَاء بني عدي بن النجار وهم أخواله الذين تزوج منهم هاشم جده فبركت بمحلة من محلاتهم أمام دار أبي أيوب الأنصاري واسمه خالد بن زيد وذلك مَحل مسجده الشريف فقال عليه الصلاة والسلام: ههنا المنزل إن شاء الله
(رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ)
فاحتمل أبو أيوب رَحْله ووضعه في منزله وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام ناقته فكانت عنده، وخرجت ولائد بني النجار يقلن:
نَحْنُ جَوارٍ من بني النَّجَّارِ يا حبّذا محمدٌ مِنْ جَارِ
فخرج إليهنّ رسول الله r فقال أتحببنني فقلن نعم فقال الله يعلم أن قلبي يحبكن
واختار عليه الصلاة والسلام النزول في الدَّوْرِ الأسفل من دار أبي أيوب ليكون أريح لزائريه ولكن لم يرضَ t ذلك كرامة لرسول الله r لما يمكن أن يصيبه من التراب الذي يُحدِثه وطء الأقدام أو الماء الذي يهراق فقد اتفق أن كُسرت من زوجته جرّة ماء بالليل فقام هو وهي بقطيفتهما التي ليس لهما غيرُها يمسحان الماء خوفاً على رسول الله rولذلك لم يَزَلْ أبو أيوب يستعطفه حتى كان في العِلْو
وكانت تأتيه الجِفَانُ كل ليلة من سرَاة الأنصار كسعد بن عبادة وأسعد بن زرارة وأُم زيد بن ثَابت فما من ليلة إلا وعلى بابه الثلاث أو الأربع من جفان الثريد.
نزول المهاجرين
ولما تحول مع رسول الله أغلب المهاجرين تنافس فيهم الأنصار فحكَّموا القرعة بينهم فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقُرعة.
أُخُوَّةُ الإسلام
ومن يتأمل إلى هذه المحبة التي يستحيل أن تكون بتأثير بشر بل بفضل من الله ورحمته يفهم كيف انتصر هؤلاء الأقوام على معانديهم من المشركين وأهل الكتاب مع قلّة العَدد والعُدد
وكان الأنصار يؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم
قال تعالى
(وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ
وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
وهذا أعلى درجات الأخوة وكل ذلك كانوا يرونه قليلاً بالنسبة لما وجب عليهم لإخوانهم فإن رسول الله r ليُمَكِّنَ بينهم الإخاء آخى بين المهاجرين والأنصار فكان كل أنصاري ونزيلُه أخوين في الله[/rtl]
ومن العبث أن نكلف القلم أن يوضّح للقارئ أن هذه الأخوة كانت أرقى بكثير من الأخوة العصبية بل نَكِلُ ذلك للإحساس الإسلامي فإنه أفصح منطقاً من القلم
وكان هذا الإخاء على المواساة والحق وأن يتوارثوا بعد الموت دون ذوي الأرحام وكان عليه الصلاة والسلام يقول لكل اثنين تآخيا في الله أخَوين أخوين ودام هذا الميراث إلى أن أنزل الله سبحانه قوله
(وَأُوْلُو الاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ).
رد: سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام
سبحانه قوله
(وَأُوْلُو الاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ)
هجرة أهل البيت
ولما استقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة ليأتيا بمن تخلّف من أهله وأرسل معهما عبد الله بن أُرَيقط يدلهما على الطريق فقَدِما بفاطمة وأُم كلثوم ابنتيه عليه الصلاة والسلام وسَودة زوجه وأُم أيمن زوج زيد وابنهما أسامة وأما زينب فمنعها زوجها أبو العاص بن الربيع وخرج من الجميع عبد الله بن أبي بكر بأُمّ رومان زوج أبيه وعائشة أخته وأسماء زوج الزبير بن العوّام وكانت حاملاً بابنها عبد الله وهو أول مولود للمهاجرين بالمدينة.
حُمَّى المدينة
ولم يكن هواء المدينة في البدء موافقاً للمهاجرين من أهل مكة، فأصاب كثيراً منهم الحُمَّى، وكان رسول الله r يعُودهم، فلما شَكوا إليه الأمر قال: «اللهمّ حبب إلينا المدينة كما حببتَ إلينا مكة وأشد،
وبارك لنا في مُدِّها وفي صاعها، وانقل وباءها إلى الجُحْفَة».
فاستجاب الله جَلَّ وعلا دعوته، وعاش المهاجرون في المدينة بسلام.
منع المستضعفين من الهجرة
ومنع مشركو مكة بعضاً من المسلمين عن الهجرة، وحبسوهم وعذبوهم، منهم: الوليد بن الوليد، وعيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص، فكان عليه الصلاة والسلام يدعو لهم في صلاته، وهذا أصل القنوت، وقد حصل في أوقات مختلفة وَمحالّ في الصلاة مختلفة، فكان في وتر العشاء، وصلاة الصبح بعد الركوع وقبله، فروى كل صحابي ما رآه، وهذا سبب اختلاف الأئمة في مكان القنوت.
السَّنة الأولى : بناء المسجد
ثم شرع عليه الصلاة والسلام في بناء مسجده في مَبْرك ناقته أمام محلّة بني مالك بن النجار، وكان محله مِرْبَداً للتمر يملكه غلامان يتيمان في حِجر أسعد بن زرارة، فدعا الغلامين، وساومهما بالمِربد ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نَهَبُهُ لك يا رسول الله، فأبى عليه الصلاة والسلام
أن يقبله منهما هبة بل ابتاعه منهما.
وكان فيه قبور للمشركين وبعض حفر ونخل، فأمر بالقبور فنُبشتْ، وبالحفر فَسُويت، وبالنَّخل فقُطع، ثم أمر باتخاذ اللبِن فاتخذ وشرعوا في البناء به، وجعلوا عضادتي الباب من الحجارة، وسقفوه بالجريد، وجعلت عمده من جذوع النخل، ولا يزيد ارتفاعه عن القامة إلا قليلاً.
وقد عمل فيه رسول الله r بنفسه ليرغِّب المسلمين في العمل، وصاروا يرتجزون وهو يقول معهم:
اللهم لا خيرَ إلا خيرُ الآخرة فارحم الأنصارَ والمُهاجرهْ
وجُعلت قبلة المسجد في شماله إلى بيت المقدس، وجُعل له ثلاثة أبواب، ثم حصبت أرضه لأن المطر كان قد أثَّر فيه، فأمر عليه الصلاة والسلام بحصبه، ولم يزين المسجد بِفُرُشٍ حتى ولا بالحصر.
وبُني بجانبه حجرتان، إحداهما لسَودة بنت زمعة، والأخرى لعائشة، ولم يكن عليه الصلاة والسلام متزوجاً غيرهما إذ ذاك، وكانت الحجرتان متجاورتين وملاصقتين للمسجد على شكل بنائه،
وصارت الحجرات تبنى كلما جاءت زوج.
بدء الأذان
أوجب الله الصلاة على المسلمين ليكونوا دائماً متذكرين عظمة العليّ الأعلى، فيتبعون أوامره، ويجتنبون نواهيه، ولذلك قال في مُحكم كتابه:
(إِنَّ الصلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآء وَالْمُنْكَرِ)
. وجعل أفضل الصلاة ما كان جماعة ليذاكر المسلمون بعضهم بعضاً في شؤونهم واحتياجاتهم، ويقوّوا روابط الألفة والاتحاد بينهم، ومتى حان وقت الصلاة فلا بدّ من عمل ينبه الغافل، ويذكّر الساهي حتى يكون الاجتماع عامّاً، فائتمر النبي عليه الصلاة والسلام مع الصحابة فيما يفعل لذلك.
فقال بعضهم: نرفع راية إذا حان وقت الصلاة ليراها الناس، فلم يرضوا ذلك لأنها لا تفيد النائم ولا الغافل، وقال آخرون: نُشعل ناراً على مرتفع من الهضاب فلم يقبل أيضاً، وأشار آخرون ببوق وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم فكرهه رسول الله r، لأنه لم يكن يحب تقليد اليهود في عمل ما، وأشار بعضهم بالناقوس وهو ما يستعمله النصارى فكرهه الرسولr أيضاً، وأشار بعضهم بالنداء فيقوم بعض الناس إذا
حانت الصلاة وينادي بها فقُبِل هذا الرأي.
فعلم بذلك أن الأذان في المسجد بين يدي الخطيب بدعة أحدثها هشام بن عبد الملك، ولا معنى لهذا الأذان، لأنه هو نداء إلى الصلاة، ومن هو في المسجد لا معنى لندائه ومن هو خارج المسجد لا يسمع النداء إذا كان النداء في المسجد. ذكر ذلك الشيخ محمد ابن الحاج في المدخل.
فعلم من ذلك كله أن سنّة رسول الله r في أذان الجمعة أنه كان إذا جلس على المنبر أذّن مؤذنه على المنار فإذا انتهت
الخطبة أُقيمت الصلاة وما عدا ذلك فكله ابتداع.
أما الإقامة وهي الدعوة للصلاة في المسجد، فقد اختلفت الروايات في نصها فرواها محمد بن إدريس الشافعي مفردة إلاّ لفظ «قد قامت الصلاة» فمَثْنَى، ورواها مالك بن أنس مفردة كلها،
ورواها أبو حنيفة النعمان مَثْنَى كلها.
يهود المدينة
هذا، وكما ابتلى الله المسلمين في مكة بمُشركي قريش ابتلاهم في المدينة بيهودها وهم: بنو قينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير، فإنهم أظهروا العداوة والبغضاء حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق، وكانوا قبل مجيء الرسول r يستفتحون على المشركين من العرب إذا شبّت الحرب بين الفريقين بنبي يبعث قد قرب زمانه، فلما جاءهم ما عرفوا استعظم رؤساؤهم أن تكون النبوّة في ولد إسماعيل، فكفروا بما أنزل الله بغياً، مع أنهم يرون أن رسول الله محمداً r لم يأتِ إلاّ مصدقاً لما بين يديه من كتب الله التي أنزلها على من سبقه من المرسلين، مبيّناً ما أفسده التأويل منها، ولكنهم نبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون وقد حجِّهم القرآن الشريف بما يدل على أنهم يعلمون
من نفوسهم البُعد عن الحق، فقال:
(قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً
مّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
ثم حتَّم جلّ ذكره عدم إجابتهم بقوله:
(وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ).
فلو كانوا يعلمون من أنفسهم أنهم على الحق لما تأخروا عمّا طُلب منهم مع سهولته، وحرصهم على تكذيب الصادق الأمين، ولم ينقل لنا عن أحد منهم أنه تمنى ذلك ولو نُطْقاً باللسان ولما استحكمت في قلوبهم عداوة الإسلام صاروا
يجهدون أنفسهم في إطفاء نوره:
(وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)
المنافقون
وكان يُساعِدُهُم على مقاصدهم جماعة من عرب المدينة أعمى الله بصائرهم فأخفوا كفرهم خوفاً على حياتهم وكان يرأس هذه الجماعة عبد الله بن أبيّ ابن سَلول الخزرجي، الذي كان مرشحاً لرياسة
أهل المدينة قبل هجرة رسول الله
ولا شكَّ أن ضررَ المنافقين أشدُّ على المسلمين من ضرر الكفار،
لأن أولئك يدخلون بين المسلمين فيعلمون أسرارهم،
ويشيعونها بين الأعداء من اليهود
وغيرهم كما حصل ذلك مراراً، والأساس الذي كان عليه رسول الله r أن يقبل ما ظهر ويترك لله ما بطن، ولكنه عليه الصلاة والسلام مع ذلك كان لا يأمنهم في عمل ما. فكثيراً ما كان يتغيب عن المدينة، ويولي عليها بعض الأنصار، ولكن لم يُعْهَد أنه وَلَّى رجلاً ممّن عُهِدَ عليه النفاق، لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم ما يكون منهم لو وُلُّوا عملاً، فإنهم بلا شك يتخذون ذلك فرصة لإضرار المسلمين، وهذا درس مهم لرؤساء الإسلام، يعلِّمهم أَلاّ يثقوا في الأعمال المهمة إلا بمن لم تظهر عليهم شبهة النفاق أو إظهار ما يخالف ما في الفؤاد.
معاهدة اليهود
هذا، وقد علمتَ أنه كان يضاد المسلمين في المدينة فئتان: اليهود والمنافقون ولكن الرسولr قَبِلَ من هؤلاء ظواهرهم وعقد مع أولئك عهداً مقتضاه ترك الحرب والأذى فلا يُحَارِبهم ولا يؤذيهم ولا يعينون عليه أحداً وإن دهمه بالمدينة عدو ينصرونه وأقرّهم على دينهم.
مشروعية القتال
قد عُلم مما تقدم أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يقاتل أحداً على الدخول في الدين، بل كان الأمر قاصراً على التبشير والإنذار، وكان الله سبحانه ينزل عليه من الآي ما يقوّيه على الصبر أمام ما كان يلاقيه من أذى قريش، ومن ذلك قوله
(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ)
. وكان كثيراً ما يقصّ الله عليه أنباء إخوانه من المرسلين قبله ليثبت به فؤاده ولما ازداد طغيان أهل مكة ألجؤوه إلى الخروج من داره بعد أن ائتمروا على قتله فكانوا هم البادئين بالعِداء على المسلمين حيث أخرجوهم من ديارهم بغير حق فبعد الهجرة أذِن الله للمهاجرين بقتال مشركي قريش بقوله
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}
وبذلك لم يكن الرسول r يتعرض إلا لقريش دون سائر العرب فلما تمالأ على المسلمين غيرُ أهل مكة من مشركي العرب واتحدوا عليهم مع الأعداء أمر الله بقتال المشركين كافة بقوله:
(وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً)
وبذلك صار الجهاد عامّاً لكل مَنْ ليس له كتاب من الوثنيين
وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام:
«أمرتُ أن أُقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله
وأن محمداً رسولُ اللهِ ويقيموا الصلاة
ويؤتوا الزكاةَ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهُم
وأموالهم إلا بحق الإسلامِ وحسابهم على الله»
ولما وجد المسلمون من اليهود خيانة للعهود حيث أنهم
ساعدوا المشركين في حروبهم أمر الله بقتالهم بقوله:
(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ)
وقتالهم واجب حتى يدينوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ليأمن المسلمون جانبهم وصار قتال رسول الله r للأعداء على هذه المبادئ الآتية:
اعتبار مُشرِكي قريش محاربين لأنهم بدؤوا بالعدوان فصار للمسلمين قتالهم ومصادرة تجارتهم حتى يأذن الله بفتح مكة أو تعقد هدنة وقتية بين الطرفين متى رُئِيَ من اليهود خيانة وتحيّز للمشركين قوتلوا حتى يؤمن جانبهم بالنفي أو القتل متى تعدّت قبيلة من العرب على المسلمين أو ساعدت قريشاً قوتلت حتى تدين بالإسلام كل من بادأ بعداوة من أهل الكتاب كالنصارى قوتل حتى يذعن بالإسلام أو يعطي الجزية عن يدٍ وهو صاغر كل من أسلم فقد عصم دمه وماله إلا بحقه والإسلام يقطع ما قبله وقد أنزل الله في القرآن الكريم كثيراً من الآي تحريضاً على الإقدام في قتال الأعداء وتبعيداً عن الفرار من الزحف
فقال تعالى:
(فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحياةَ الدُّنْيَا بِالاْخِرَةِ
وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)
وقال تعالى :
(يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ (15) وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآء بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
بدء القتال
كانت عادة قريش أن تذهَب بتجارتها إلى الشام لتبيع وتبتاع\ ويُسمى الركبُ السائر بهذه التجارة عِيْراً وكان يسير معها لحراستها كثير من أشراف القوم وسَرَاتِهم ولا بد لوصولهم إلى الشام من المرور على دار الهجرة فرأى رسول اللهr أن يُصادِرَ تجارتهم ذاهبةً وآيبة ليكون في ذلك عقاب لمشركي مكة حتى تضعف قوتهم المالية فيكون ذلك أدعى لخذلانهم في ميدان القتال الذي لا بدّ أن يكون لأن قريشاً لم تكن لتسكت عمّن سفَّه أحلامهم وعاب عبادتهم خصوصاً
وهم قدوة العرب في الدين.
سرية حمزة بن عبد المطلب إلى العيص
ففي شهر رمضان أرسل عمَّه حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين رجلاً من المهاجرين، وعقد لهم لواء أبيض حمله أبو مَرْثَد حليف حمزة، ليعترض عِيراً لقريش آيبة من الشام، فيها أبو جهل وثلاثمائة من أصحابه المشركين، فسار حمزة حتى وصل ساحل البحر من ناحية العِيص فصادف العير هناك، فلما تصافّوا للقتال حجز بين الفريقين مَجدِيُّ بن عمرو الجُهني فأطاعوه وانصرفوا، وشكر عليه الصلاة والسلام مجدياً على عمله لما كان من قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم.
سرية عبيدة بن الحارث إلى رابغ
(وَأُوْلُو الاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ)
هجرة أهل البيت
ولما استقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة ليأتيا بمن تخلّف من أهله وأرسل معهما عبد الله بن أُرَيقط يدلهما على الطريق فقَدِما بفاطمة وأُم كلثوم ابنتيه عليه الصلاة والسلام وسَودة زوجه وأُم أيمن زوج زيد وابنهما أسامة وأما زينب فمنعها زوجها أبو العاص بن الربيع وخرج من الجميع عبد الله بن أبي بكر بأُمّ رومان زوج أبيه وعائشة أخته وأسماء زوج الزبير بن العوّام وكانت حاملاً بابنها عبد الله وهو أول مولود للمهاجرين بالمدينة.
حُمَّى المدينة
ولم يكن هواء المدينة في البدء موافقاً للمهاجرين من أهل مكة، فأصاب كثيراً منهم الحُمَّى، وكان رسول الله r يعُودهم، فلما شَكوا إليه الأمر قال: «اللهمّ حبب إلينا المدينة كما حببتَ إلينا مكة وأشد،
وبارك لنا في مُدِّها وفي صاعها، وانقل وباءها إلى الجُحْفَة».
فاستجاب الله جَلَّ وعلا دعوته، وعاش المهاجرون في المدينة بسلام.
منع المستضعفين من الهجرة
ومنع مشركو مكة بعضاً من المسلمين عن الهجرة، وحبسوهم وعذبوهم، منهم: الوليد بن الوليد، وعيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص، فكان عليه الصلاة والسلام يدعو لهم في صلاته، وهذا أصل القنوت، وقد حصل في أوقات مختلفة وَمحالّ في الصلاة مختلفة، فكان في وتر العشاء، وصلاة الصبح بعد الركوع وقبله، فروى كل صحابي ما رآه، وهذا سبب اختلاف الأئمة في مكان القنوت.
السَّنة الأولى : بناء المسجد
ثم شرع عليه الصلاة والسلام في بناء مسجده في مَبْرك ناقته أمام محلّة بني مالك بن النجار، وكان محله مِرْبَداً للتمر يملكه غلامان يتيمان في حِجر أسعد بن زرارة، فدعا الغلامين، وساومهما بالمِربد ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نَهَبُهُ لك يا رسول الله، فأبى عليه الصلاة والسلام
أن يقبله منهما هبة بل ابتاعه منهما.
وكان فيه قبور للمشركين وبعض حفر ونخل، فأمر بالقبور فنُبشتْ، وبالحفر فَسُويت، وبالنَّخل فقُطع، ثم أمر باتخاذ اللبِن فاتخذ وشرعوا في البناء به، وجعلوا عضادتي الباب من الحجارة، وسقفوه بالجريد، وجعلت عمده من جذوع النخل، ولا يزيد ارتفاعه عن القامة إلا قليلاً.
وقد عمل فيه رسول الله r بنفسه ليرغِّب المسلمين في العمل، وصاروا يرتجزون وهو يقول معهم:
اللهم لا خيرَ إلا خيرُ الآخرة فارحم الأنصارَ والمُهاجرهْ
وجُعلت قبلة المسجد في شماله إلى بيت المقدس، وجُعل له ثلاثة أبواب، ثم حصبت أرضه لأن المطر كان قد أثَّر فيه، فأمر عليه الصلاة والسلام بحصبه، ولم يزين المسجد بِفُرُشٍ حتى ولا بالحصر.
وبُني بجانبه حجرتان، إحداهما لسَودة بنت زمعة، والأخرى لعائشة، ولم يكن عليه الصلاة والسلام متزوجاً غيرهما إذ ذاك، وكانت الحجرتان متجاورتين وملاصقتين للمسجد على شكل بنائه،
وصارت الحجرات تبنى كلما جاءت زوج.
بدء الأذان
أوجب الله الصلاة على المسلمين ليكونوا دائماً متذكرين عظمة العليّ الأعلى، فيتبعون أوامره، ويجتنبون نواهيه، ولذلك قال في مُحكم كتابه:
(إِنَّ الصلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآء وَالْمُنْكَرِ)
. وجعل أفضل الصلاة ما كان جماعة ليذاكر المسلمون بعضهم بعضاً في شؤونهم واحتياجاتهم، ويقوّوا روابط الألفة والاتحاد بينهم، ومتى حان وقت الصلاة فلا بدّ من عمل ينبه الغافل، ويذكّر الساهي حتى يكون الاجتماع عامّاً، فائتمر النبي عليه الصلاة والسلام مع الصحابة فيما يفعل لذلك.
فقال بعضهم: نرفع راية إذا حان وقت الصلاة ليراها الناس، فلم يرضوا ذلك لأنها لا تفيد النائم ولا الغافل، وقال آخرون: نُشعل ناراً على مرتفع من الهضاب فلم يقبل أيضاً، وأشار آخرون ببوق وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم فكرهه رسول الله r، لأنه لم يكن يحب تقليد اليهود في عمل ما، وأشار بعضهم بالناقوس وهو ما يستعمله النصارى فكرهه الرسولr أيضاً، وأشار بعضهم بالنداء فيقوم بعض الناس إذا
حانت الصلاة وينادي بها فقُبِل هذا الرأي.
فعلم بذلك أن الأذان في المسجد بين يدي الخطيب بدعة أحدثها هشام بن عبد الملك، ولا معنى لهذا الأذان، لأنه هو نداء إلى الصلاة، ومن هو في المسجد لا معنى لندائه ومن هو خارج المسجد لا يسمع النداء إذا كان النداء في المسجد. ذكر ذلك الشيخ محمد ابن الحاج في المدخل.
فعلم من ذلك كله أن سنّة رسول الله r في أذان الجمعة أنه كان إذا جلس على المنبر أذّن مؤذنه على المنار فإذا انتهت
الخطبة أُقيمت الصلاة وما عدا ذلك فكله ابتداع.
أما الإقامة وهي الدعوة للصلاة في المسجد، فقد اختلفت الروايات في نصها فرواها محمد بن إدريس الشافعي مفردة إلاّ لفظ «قد قامت الصلاة» فمَثْنَى، ورواها مالك بن أنس مفردة كلها،
ورواها أبو حنيفة النعمان مَثْنَى كلها.
يهود المدينة
هذا، وكما ابتلى الله المسلمين في مكة بمُشركي قريش ابتلاهم في المدينة بيهودها وهم: بنو قينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير، فإنهم أظهروا العداوة والبغضاء حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق، وكانوا قبل مجيء الرسول r يستفتحون على المشركين من العرب إذا شبّت الحرب بين الفريقين بنبي يبعث قد قرب زمانه، فلما جاءهم ما عرفوا استعظم رؤساؤهم أن تكون النبوّة في ولد إسماعيل، فكفروا بما أنزل الله بغياً، مع أنهم يرون أن رسول الله محمداً r لم يأتِ إلاّ مصدقاً لما بين يديه من كتب الله التي أنزلها على من سبقه من المرسلين، مبيّناً ما أفسده التأويل منها، ولكنهم نبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون وقد حجِّهم القرآن الشريف بما يدل على أنهم يعلمون
من نفوسهم البُعد عن الحق، فقال:
(قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً
مّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
ثم حتَّم جلّ ذكره عدم إجابتهم بقوله:
(وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ).
فلو كانوا يعلمون من أنفسهم أنهم على الحق لما تأخروا عمّا طُلب منهم مع سهولته، وحرصهم على تكذيب الصادق الأمين، ولم ينقل لنا عن أحد منهم أنه تمنى ذلك ولو نُطْقاً باللسان ولما استحكمت في قلوبهم عداوة الإسلام صاروا
يجهدون أنفسهم في إطفاء نوره:
(وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)
المنافقون
وكان يُساعِدُهُم على مقاصدهم جماعة من عرب المدينة أعمى الله بصائرهم فأخفوا كفرهم خوفاً على حياتهم وكان يرأس هذه الجماعة عبد الله بن أبيّ ابن سَلول الخزرجي، الذي كان مرشحاً لرياسة
أهل المدينة قبل هجرة رسول الله
ولا شكَّ أن ضررَ المنافقين أشدُّ على المسلمين من ضرر الكفار،
لأن أولئك يدخلون بين المسلمين فيعلمون أسرارهم،
ويشيعونها بين الأعداء من اليهود
وغيرهم كما حصل ذلك مراراً، والأساس الذي كان عليه رسول الله r أن يقبل ما ظهر ويترك لله ما بطن، ولكنه عليه الصلاة والسلام مع ذلك كان لا يأمنهم في عمل ما. فكثيراً ما كان يتغيب عن المدينة، ويولي عليها بعض الأنصار، ولكن لم يُعْهَد أنه وَلَّى رجلاً ممّن عُهِدَ عليه النفاق، لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم ما يكون منهم لو وُلُّوا عملاً، فإنهم بلا شك يتخذون ذلك فرصة لإضرار المسلمين، وهذا درس مهم لرؤساء الإسلام، يعلِّمهم أَلاّ يثقوا في الأعمال المهمة إلا بمن لم تظهر عليهم شبهة النفاق أو إظهار ما يخالف ما في الفؤاد.
معاهدة اليهود
هذا، وقد علمتَ أنه كان يضاد المسلمين في المدينة فئتان: اليهود والمنافقون ولكن الرسولr قَبِلَ من هؤلاء ظواهرهم وعقد مع أولئك عهداً مقتضاه ترك الحرب والأذى فلا يُحَارِبهم ولا يؤذيهم ولا يعينون عليه أحداً وإن دهمه بالمدينة عدو ينصرونه وأقرّهم على دينهم.
مشروعية القتال
قد عُلم مما تقدم أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يقاتل أحداً على الدخول في الدين، بل كان الأمر قاصراً على التبشير والإنذار، وكان الله سبحانه ينزل عليه من الآي ما يقوّيه على الصبر أمام ما كان يلاقيه من أذى قريش، ومن ذلك قوله
(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ)
. وكان كثيراً ما يقصّ الله عليه أنباء إخوانه من المرسلين قبله ليثبت به فؤاده ولما ازداد طغيان أهل مكة ألجؤوه إلى الخروج من داره بعد أن ائتمروا على قتله فكانوا هم البادئين بالعِداء على المسلمين حيث أخرجوهم من ديارهم بغير حق فبعد الهجرة أذِن الله للمهاجرين بقتال مشركي قريش بقوله
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}
وبذلك لم يكن الرسول r يتعرض إلا لقريش دون سائر العرب فلما تمالأ على المسلمين غيرُ أهل مكة من مشركي العرب واتحدوا عليهم مع الأعداء أمر الله بقتال المشركين كافة بقوله:
(وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً)
وبذلك صار الجهاد عامّاً لكل مَنْ ليس له كتاب من الوثنيين
وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام:
«أمرتُ أن أُقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله
وأن محمداً رسولُ اللهِ ويقيموا الصلاة
ويؤتوا الزكاةَ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهُم
وأموالهم إلا بحق الإسلامِ وحسابهم على الله»
ولما وجد المسلمون من اليهود خيانة للعهود حيث أنهم
ساعدوا المشركين في حروبهم أمر الله بقتالهم بقوله:
(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ)
وقتالهم واجب حتى يدينوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ليأمن المسلمون جانبهم وصار قتال رسول الله r للأعداء على هذه المبادئ الآتية:
اعتبار مُشرِكي قريش محاربين لأنهم بدؤوا بالعدوان فصار للمسلمين قتالهم ومصادرة تجارتهم حتى يأذن الله بفتح مكة أو تعقد هدنة وقتية بين الطرفين متى رُئِيَ من اليهود خيانة وتحيّز للمشركين قوتلوا حتى يؤمن جانبهم بالنفي أو القتل متى تعدّت قبيلة من العرب على المسلمين أو ساعدت قريشاً قوتلت حتى تدين بالإسلام كل من بادأ بعداوة من أهل الكتاب كالنصارى قوتل حتى يذعن بالإسلام أو يعطي الجزية عن يدٍ وهو صاغر كل من أسلم فقد عصم دمه وماله إلا بحقه والإسلام يقطع ما قبله وقد أنزل الله في القرآن الكريم كثيراً من الآي تحريضاً على الإقدام في قتال الأعداء وتبعيداً عن الفرار من الزحف
فقال تعالى:
(فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحياةَ الدُّنْيَا بِالاْخِرَةِ
وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)
وقال تعالى :
(يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ (15) وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآء بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
بدء القتال
كانت عادة قريش أن تذهَب بتجارتها إلى الشام لتبيع وتبتاع\ ويُسمى الركبُ السائر بهذه التجارة عِيْراً وكان يسير معها لحراستها كثير من أشراف القوم وسَرَاتِهم ولا بد لوصولهم إلى الشام من المرور على دار الهجرة فرأى رسول اللهr أن يُصادِرَ تجارتهم ذاهبةً وآيبة ليكون في ذلك عقاب لمشركي مكة حتى تضعف قوتهم المالية فيكون ذلك أدعى لخذلانهم في ميدان القتال الذي لا بدّ أن يكون لأن قريشاً لم تكن لتسكت عمّن سفَّه أحلامهم وعاب عبادتهم خصوصاً
وهم قدوة العرب في الدين.
سرية حمزة بن عبد المطلب إلى العيص
ففي شهر رمضان أرسل عمَّه حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين رجلاً من المهاجرين، وعقد لهم لواء أبيض حمله أبو مَرْثَد حليف حمزة، ليعترض عِيراً لقريش آيبة من الشام، فيها أبو جهل وثلاثمائة من أصحابه المشركين، فسار حمزة حتى وصل ساحل البحر من ناحية العِيص فصادف العير هناك، فلما تصافّوا للقتال حجز بين الفريقين مَجدِيُّ بن عمرو الجُهني فأطاعوه وانصرفوا، وشكر عليه الصلاة والسلام مجدياً على عمله لما كان من قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم.
سرية عبيدة بن الحارث إلى رابغ
يتبع
رد: سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام
سرية عبيدة بن الحارث إلى رابغ
وفي شوال أرسل عُبيدة بن الحارث ابن عم حمزة في ثمانين راكباً من المهاجرين، وعقد له لواء أبيض حمله مِسْطَح بن أُثَاثة ليعترض عيراً لقريش، فيها مِئَتا رجل، فوافوا العير ببطن رابغ فكان بينهما الرمي بالنبل، ثم خاف المشركون أن يكون للمسلمين كمين فانهزموا، ولم يتبعهم المسلمون، وفرّ من المشركين إلى المسلمين المقداد بن الأسود وعتبة بن غَزْوان وكانا قد أسلما وخرجا ليلحقا بالمسلمين.
وفيات
وفي هذه السنة توفي من المهاجرين عثمان بن مظعون أخو
من الرضاع أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين،
ولما دفن أمر عليه الصلاة والسلام بأن يُرَشَّ قبره بالماء،
ووضعَ على قبره حجراً،
وقال: «أَتَعَلَّمُ به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي»،
وهذا كان القصد من وضع الأحجار على المقابر، لا ما يقصده أهل العصور الأخيرة من تشييد الهياكل على القبور، وتصويرها بصور تُرَى في عين الناظر كالأصنام، ليأتي أقارب الميت ويصنعوا عندها احتفالات كثيرة،
تشبه ما كان يفعله مشركو مكة عند معابدهم،
ومات من الأنصار أسعدُ بن زُرارة أحد النقباء الاثني عشر،
كان نقيب بني النجار، ولما مات اختار رسول الله نفسه
للنقابة عليهم لأن ابن أخت القوم منهم
ومات أيضاً البراء بن معرور أحد النقباء،
وهو الذي كان يتكلم عن القوم في العقبة الثانية.
ومات من مشركي مكة في هذه السنة الوليد بن المغيرة، ولما احتُضر جزع فقال له أبو جهل: ما جزعك يا عم؟ فقال: والله ما بي من جزع من الموت، ولكن أخاف أن يظهر دين ابن أبي كبشة بمكة، فقال أبو سفيان: لا تخفْ إني ضامن ألاّ يظهر. وفيها أيضاً مات العاص بن وائل السهمي.
وقد كفى الله المسلمين شر هذين الشقيّين.
السنَّة الثانية : غزوة وَدَّان الأبواء
ولاثنتي عشرة ليلة خَلَت من السنة الثانية خرج رسول الله من المدينة بعد أن استخلف عليها سعد بن عبادة ليعترض عيراً لقريش فسار حتى بلغ وَدّان وكان يحمل لواءه عمّه حمزة ولم يلق هناك حرباً لأن العير كانت قد سبقته وفي هذه الغزوة صالح بني ضمرة على أنهم آمنون على أنفسهم ولهم النصر على من رامَهم وأن عليهم نُصْرَةَ المسلمين إذا دُعوا ثم رجع إلى المدينة بعد مضي خمس عشرة ليلة.
غزوة بُواط
ولم يمض على رجوعِه غير قليل حتى بلغه أن عيراً لقريش آيبة من الشام فيها أمية بن خلف ومائة من قريش وألفان وخمسمائة بعير فسار إليها في مائتين من المهاجرين وذلك في ربيع الأول وكان يحمل لواءه سعدُ بن أبي وقاص فسار حتى بلغ بُواط فوجد العير قد فاتته فرجع ولم يلقَ كيداً وذلك كله لما كان يأخذه المشركون من الحذر على
أنفسهم والاجتهاد في تعمية أخبارهم عن أهل المدينة.
غزوة العُشَيرة
وأعقب رجوعه عليه الصلاة والسلام خروج قريش بأعظم عيرٍ لها فقد جمعوا فيها أموالهم حتى لم يبق بمكة قرشي أو قرشية لها مثقالٌ فصاعداً إلا بعث به في تلك العير وكان يرأسها أبو سفيان بن حرب ومعه بضعة وعشرون رجلاً فخرج لها الرسول في جمادى الأولى ومعه مائة وخمسون من المهاجرين واستخلف على المدينة أبا سلمَة بن عبد الأسد وحمل لواء عمه حمزة ولم يزل سائراً حتى بلغ العُشَيْرة فوجد العير قد مضتْ وحالفَ عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة بني مُدلِج وحلفاءهم ثم رجع عليه الصلاة والسلام
إلى المدينة ينتظر هذه العير حينما ترجع.
غزوة بدر الأولى
وبعد رجوعه عليه الصلاة والسلام بقليل جاء كُرْزُ بن جابر الفِهري وأغار على سَرْح المدينة وهرب فخرج الرسول في طلبه واستخلف على المدينة زيدَ بن حارثة الأنصاري وحمل لواءه علي بن أبي طالب سار حتى بلغ سَفَوان وتُسمى هذه الغزوة بدراً الأولى.
سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة
وفي رجب من هذه السنة أرسل سرية عدّتها ثمانية رجال يرأسها عبد الله بن جحش وأعطاه كتاباً مختوماً لا يَفُضُّه إلا بعد أن يسير يومين ثم ينظر فيه فسار عبدُ الله يومين ثم فتح الكتاب فإذا فيه إذا نظرت كتابي هذا فامضِ حتى تنزل نَخْلَةَ فترصُدَ بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم وإنما لم يخبرهم عليه الصلاة والسلام بمقصدهم وهم بالمدينة حذراً من شيوع الخبر فيدل عليهم أحد الأعداء من المنافقين أو اليهود فترصد لهم قريش
ولا يخفى أن عدد السرية قليل لا يمكنه المقاومة.
ثم سار عبد الله ، وفي أثناء السير تخلَّف سعد بن أبي وقّاص وعُتبة بن غَزوان لأنهما أضلا بعيرهما الذي كانا يعتقبانه، وسار الباقون حتى وصلوا نخلة فمرّت بهم عِير قرشية تريد مكة فيها عمرو بن الحَضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل، والحَكم بن كَيسان، فأجمع المسلمون أمرهم على أن يحملوا عليهم ويأخذوا ما معهم، فحملوا عليهم في آخر يوم من رجب، فقتلوا عمرو بن الحضرمي، وأسروا عثمان والحكم، وهرب نوفل، واستاقوا العِير وهي أولُ غنيمة غنمها المسلمون من أعدائهم قريش ثم رجعوا، ولم يتمكن المشركون من اللحاق بهم. فلما قدموا المدينة وشاع أنهم قاتلوا في الأشهر الحرم، وعابتهم قريش واليهود بذلك، عَنَّفَهم المسلمون،
وقال لهم عليه الصلاة والسلام:
«ما أمرتُكم بقتال في الأشهر الحُرم»
فندموا،
فأنزل الله:
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ )
فَسُرِّي عنهم.
وقد طلب المشركون فداء أسيريهما،
فقال عليه الصلاة والسلام
«حتى يرجعَ سعد وعتبة»،
فلما رجعا قَبِلَ عليه الصلاة والسلام الفدية في الأسيرين،
فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه وبقي مع المسلمين،
وأما عثمان فلحق بمكة كافراً.
تحويل القبلة
مكث عليه الصلاة والسلام بالمدينة ستة عشر شهراً يستقبل
بيت المقدس في صلاته وكان يحبّ أن تكون قبلته الكعبة
ويقلِّبُ وجهه في السماء داعياً الله بذلك فبينما هو في صلاته
إذ أوحى الله إليه بتحويل القبلة إلى الكعبة فتحوّل وتحوَّلَ مَنْ وراءه.
وكانت هذه الحادثة سبباً لافتتان بعض المسلمين الذين ضعفت
قلوبهم فارتدوا على أعقابهم وقد أكثر اليهود من التنديد
على الإسلام بهذا التحويل وما دَرَوا أن لله المشرق
والمغرب يهدي مَنْ يشاءُ إلى صراط مستقيم.
صوم رمضان
وفي شعبان من هذه السنة أوجب الله صوم شهر رمضان على الأمة الإسلامية، وكان عليه الصلاة والسلام قبل ذلك يصوم ثلاثة أيام من كل شهر. والصيام من دعائم هذا الدين، والفرائض التي بها يتمّ النظام، فإن الإنسان مجبول على حبّ نفسه، والسعي فيما يعود عليها بالنفع الخاص، تاركاً ما وراء ذلك من حاجات الضعفاء والمساكين، فلا بدّ من وازِع يزعه لحاجات قوم أقعدتهم قواهم عن إدراك حاجاتهم، ولا أقوى من ذوق قوارص الجوع والعطش، إذ بهما تلين نفسه ويتهذب خلقه، فيسهل عليه بذل الصدقات.
صدقة الفطر
ولذلك أوجب الشّارِع الحكيم عقب الصوم زكاة الفطر فترى
الإنسان يبذلها بسخاء نفس ومحبة خالصة.
زكاة المال
وفي هذا العام فُرضت زكاة الأموال، وهذه هي النظام الوحيد الذي به
يأكل الفقراء والمساكين من إخوانهم الأغنياء بلا ضرر على هؤلاء.
فإذا بلغت الدنانير عشرين أو الدراهم مائتين، وحال عليها الحول، وجب عليك
أن تؤدي ربع عشرها، أي اثنين ونصفاً في كل مائة، وما زاد فبحسابه.
وإذا بلغت الشياه أربعين، والبقر ثلاثين، والإبل خمساً، وحال عليها الحول وجب عليك كذلك أن تؤدي منها جرءاً مخصوصاً حدده الشّارِع، ومثلها عروض التجارة، ومحصولات الزراعة كل هذا يقبضه الإمام ويوزعه على مستحقيه من الفقراء والمساكين وبقية المذكورين
في آية الصدقة:
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ
وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
واللبيب العاقل البعيد عن التعصب يحكم لأول نظرة أن هذا النظام مع عدم إضراره بالأغنياء مقلل لمصائب الفقر التي ألجأت كثيراً من فقراء الأمم أن يخالفوا نظام دولهم ويؤسسوا مبادئ تقويض وتداعي الأمن كما يفعله الاشتراكيون وغيرهم.
غزوة بدر الكبرى
لم يطل العهد بتلك العِير العظيمة التي خرج لها وهي متوجهة إلى الشام
فلم يدركها ولم يزل مترقباً رجوعها فلما سمع برجوعها
نَدَبَ إليها أصحابَهُ وقال:
«هذه عيرُ قريش فاخرجوا إليها لعلّ الله أن ينفلكموها»،
فأجاب قوم وثَقُلَ آخرون لظنهم أن الرسول لم يُرِدْ حرباً،
فإنه لم يحتفل بها بل
قال: «من كان ظهره حاضراً فليركبْ معنا».
ولم ينتظر من كان ظهره غائباً.
فخرج لثلاثِ ليالٍ خَلَوْنَ من رمضان بعد أن ولَّى على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم، وكان معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً: مئتان ونيف وأربعون من الأنصار، والباقون من المهاجرين ومعهم فَرَسان وسبعون بعيراً يعتقبونها والحامل للواء مصعب بن عمير العَبْدري.
ولما علم أبو سفيان بخروج الرسول استأجر راكباً ليأتي قريشاً ويخبرهم الخبر فلما علموا بذلك أدركتهم حميتهم وخافوا على تجارتهم فنفروا سِراعاً ولم يتخلف من أشرافهم إلا أبو لهب بن عبد المطلب فإنه أرسل بدله العاص بن هشام بن المغيرة وأراد أمية بن خلف أن يتخلَّف لحديث حدَّثه إياه سعد بن معاذ حينما كان معتمراً بعد الهجرة بقليل حيث
قال: سمعتُ من رسول الله يقول:
((إنهم قاتلوك قال: بمكة قال: لا أدري ففزع لذلك وحلف ألاَّ يخرج فعابه أبو جهل ولم يزل به حتى خرج قاصداً الرجوع بعد قليل ولكن إرادة الله فوق كل إرادة فإن منيته ساقته إلى حتفه رغم أنفه وكذلك عَزَمَ جماعةٌ من الأشراف على القعود فَعِيْبَ عليهم ذلك))
وبهذا أجمعتْ رجالُ قريش على الخروج، فخرجوا على الصعب والذلول،
أمامهم القَيْنات يغنين بهجاء المسلمين:
(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ
الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ)
أما رسول الله فلم يكن يعرف شيئاً مما فعله المشركون، ولم يكن خروجه إلا للعير، فعسكر ببيوت السُّقْيا خارج المدينة، واستعرض الجيش فردَّ مَنْ ليس له قدرة على الحرب، ثم أرسل اثنين يتجسسان الأخبار عن العير. ولما بلغ الرَّوْحاء جاءه الخبر بمسير قريش لمنع عيرهم، وجاءه مخبراه بأن العير ستصل بدراً غداً أو بعد غد، فجمع عليه الصلاة والسلام كبراء الجيش وقال لهم:
«أيّها الناس إنَّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين أنها لكم: العير أو النفير»
فتبين له عليه الصلاة والسلام أن بعضهم يريدون غير ذات الشوكة وهي العير
ليستعينوا بما فيها من الأموال، فقد قالوا: هلاّ ذكرت لنا القتال فنستعد وجاء
مصداق ذلك قوله تعالى:
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)
ثم قام المقداد بن الأسود فقالَ: يا رسول الله امضِ لما أمرك الله،
فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
(فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون،
والله لو سرت بنا إلى بَرْكَ الغِمَاد لجالدنا معك
من دونه حتى تبلغه، فدعا له بخير.
ثم قال عليه الصلاة والسلام:
«أشيروا عليّ أيّها الناس»
وهو يريد الأنصار لأن بيعة العقبة ربما يفهم منها أنه لا تَجِب عليهم نصرته إلا ما دام بين أظهرهم. فإن فيها: يا رسول الله إنَّا بُرآء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فقال سعد بن معاذ، سيد الأوس: كأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال: «أجل» فقال سعد: قد آمنا بك وصدّقناك، وأعطيناك على ذلك عهودنا، فامضِ لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك، وما نكره أن تكون
تلقى العدو بنا غداً، إنّا لصُبُر عند الحرب، صُدُق عند اللقاء،
ولعلّ الله يُريك منّا ما تقرّ به عَيْنُك، فسر على بركة الله.
فأشرق وجهه عليه الصلاة والسلام، وسُرّ بذلك،
وقال كما في رواية البخاري:
«أبشروا والله كأني أنظر إلى مصارع القوم»
فَعلم القومُ من هذه الجملة أن الحرب لا بدّ حاصلة، وحقيقةً حصلت، فإن أبا سفيان لما علم بخروج المسلمين له ترك الطريق المسلوكة، وسار متّبعاً ساحل البحر فنجا، وأرسل إلى قريش يُعلِمهم بذلك، ويشير عليهم بالرجوع، فقال أبو جهل: لا نرجع حتى نحضر بدراً فنقيم فيه ثلاثاً: ننحر الجَزور، ونطعم الطعام، ونُسقي الخمر، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً. فقال الأخنس بن شريق الثقفي لبني زهرة وكان حليفاً لهم : ارجعوا يا قوم فقد نجَّى الله أموالكم فرجعوا، ولم يشهد بدراً زهري ولا عدوي، ثم سار الجيش حتى وصلوا وادي بدر فنزلوا عدوته القصوى عن المدينة في أرض سهلة لينة.
أما جيش المسلمين، فإنه لمّا قارب بدراً أرسل عليه الصلاة والسلام عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوّام ليعرفا الأخبار، فصادفا سُقاةً لقريش فيهم غلام لبني الحجاج وغلام لبني العاص السهميين، فأتيا بهما، والرسول عليه السلام قائم يصلي، ثم سألاهما عن أنفسهما، فقالا: نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم الماء، فضرباهما لأنهما ظنا أن الغلامين لأبي سفيان. فقال الغلامان: نحن لأبي سفيان فتركاهما.
ولما أتمَّ الرسول عليه السلام صلاته، قال:
«إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما؟
صدقا والله إنهما لقريش».
ثم قال لهما: «أخبراني عن قريش؟»
قالا: هم وراء هذا الكَثيب،
فقال لهما: «كم هم؟»
فقالا: لا ندري.
قال: «كم ينحرون كل يوم؟».
قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً.
قال: «القوم ما بين التسعمائة والألف»،
ثم سألهما عمّن في النفير من أشراف قريش فذكرا له عدداً عظيماً،
فقال عليه السلام لأصحابه:
«هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها»
ثم ساروا حتى نزلوا بعُدْوَةِ الوادي الدنيا من المدينة بعيداً عن الماء في أرض سبخة، فأصبح المسلمون عطاشاً بعضهم جُنب وبعضهم مُحْدِث، فحدَّثهم الشيطان بوسوسته، ولولا فضل الله عليهم ورحمته لثنيت عزائمهم، فإنه قال لهم: ما ينتظر المشركون منكم إلا أن يقطع العطش رقابكم، ويُذهِب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاؤوا.
فأرسل الله لهم الغيث حتى سال الوادي، فشربوا واتخذوا
الحِياض على عُدْوَةِ الوادي، واغتسلوا وتوضؤوا وملؤوا الأسقية،
ولبدت الأرض، حتى ثبتت عليها الأقدام
على حين أن كان هذا المطر مصيبة على المشركين
فإنه وَحَّل الأرض حتى لم يعودوا يقدرون على الارتحال.
ومصداق هذا قوله تعالى:
(وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَآء مَآء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ
رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الاْقْدَامَ)
وقد أرى الله رسوله في منامه الأعداء كما أراهموه وقت اللقاء
قليلي العدد كيلا يفشل المسلمون وليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
قال تعالى:
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ
وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَلَاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(43)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ
لِيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ)
وبعد انقضاء هذه المبارزة، وقف عليه الصلاة والسلام بين الصفوف يعدِلها بقضيب في يده، فمرّ بسواد بن غَزِية حليف بني النجار وهو خارج من الصف،
فضربه بالقضيب في بطنه وقالَ:
«استقم يا سواد»،
فقال أوجعتني يا رسول الله وقد بُعثت بالحق والعدل فَأَقِدْني من نفسك.
فكشف الرسول عليه الصلاة والسلام عن بطنه،
وقال: «استقد يا سواد»،
فاعتنقه سواد وقبَّل بطنه.
فقال عليه الصلاة والسلام:
«ما حملك على ذلك؟»
فقال يا رسول الله قد حضر ما ترى فأردتُ أن يكون آخر العهد
أن يمسّ جلدي جلدَك، فدعا له بخير.
واشتد القتال، وحمي الوطيس، وأيد الله المسلمين بالملائكة بُشرى لهم ولتطمئن به قلوبهم. فلم تكن إلا ساعة حتى هُزم الجمع، وولّوا الدُّبُرَ، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون،
فقتل من المشركين نحوُ السبعين، منهم من قريش:
عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، قُتلوا مبارزة أول القتال، وأبو البَخْتري بن هشام، والجراح والد أبي عبيدة قتله ابنه بعد أن ابتعد عنه فلم يزدجر، وقُتل أُمية بن خلف وابنه علي، اشترك في قتلهما جماعة من الأنصار مع بلال بن رباح وعمّار بن ياسر، وقد سعيا في ذلك لما كان يفعله بهما أُمَيّةُ في مكة. ومن القتلى حنظلة بن أبي سفيان، وأبو جهل بن هشام، أثخنه فَتيان صغيران من الأنصار، لما كانا يسمعانه من أنه كان شديدَ الإيذاء لرسول الله ، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود، وقُتل نوفل بن خويلد قتله علي بن أبي طالب، وقتل عبيدة والعاصي ولدا أبي أُحَيْحَةَ سعيدِ بنِ العاصِ بنِ أمية، وقُتِل كثيرون غيرهم.
أما الأسرى فكانوا سبعين أيضاً،
قتلَ منهم عليه الصلاة والسلام وهو راجع عقبة َبن أبي مُعيط،
والنضر َبن الحارث اللذين كانا بمكة من أشد المستهزئين
وكانت هذه الواقعة في 17 رمضان وهو اليوم الذي ابتدأ فيه نزول
القرآن وبين التاريخين 14 سنة قمرية كاملة.
وقد أمر عليه الصلاة والسلام بالقتلى فنُقلوا من مصارعهم التي كان الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بها قبل حصول الموقعة إلى قليب بدر، لأنه عليه السلام كان من سُننه في مغازيه إذا مرّ بجيفة إنسان أمر بها فدفنت، لا يسأل عنه مؤمناً أو كافراً. ولما ألقي عتبة والد أبي حذيفة أحد السابقين إلى الإسلام تغير وجه ابنه
ففطن الرسول عليه السلام لذلك، فقال:
«لعلّك دخلك من شأن أبيك شيء؟»
فقال: لا والله ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً،
فكنت أرجو أن يهديه الله للإسلام،
فلما رأيت ما مات عليه أحزنني ذلك،
فدعا له الرسول عليه والصلاة السلام بخير،
ثم أمر عليه السلام براحِلته فشُدَّ عليها حتى قام على شَفَةِ القليب
الذي رمي فيه المشركون،
فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم:
«يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسرّكم أنكم كنتم أطعتم الله ورسوله؟
فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟»
فقال عمر: يا رسول الله ما تُكَلِّمُ من أجساد لا أرواح فيها؟
فقال:
«والذي نفسُ محمد بيده ما أنتم بأسمَعَ لما أقولُ منهم».
وتقول عائشة إنما قال:
«إنهم الآن ليعلمون أَنَّ ما كنتُ أقول لهم حق»،
يقول: «يعلمون ذلك حينما تبوّؤوا مقاعدهم من النار»
ثم أرسل عليه السلام المبشرين فأرسل عبد الله بن رواحة لأهل العالية
وأرسل زيد بن حارثة لأهل السافلة راكباً على ناقة رسول الله وكان المنافقون
والكفار من اليهود قد أرجفوا بالرسول والمسلمين عادة الأعداء في إذاعة الضرّاء يقصدون بذلك فتنة المسلمين فجاء أولئك المبشرون بما سرّ أهل المدينة
وكان ذلك وقت انصرافهم من دفن رقية بنت رسول الله وزوج عثمان.
ثم قفل رسول الله راجعاً، وهنا وقع خُلف بين بعض المسلمين في قسمة الغنائم، فالشبان يقولون: باشرنا القتال، فهي لنا خالصة، والشيوخ يقولون: كنا ردءاً لكم فنشارككم. ولما كان هذا الاختلاف مما يدعو إلى الضعف، ويزرع في القلوب العداوة والبغضاء المؤديين إلى تشتت الشمل أنزل الله حسماً لهذا الخلاف
قال تعالى:
({يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ)
فسطع على أفئدتهم نور القرآن، فتألّفت بعد أن كادت تفترق، وتركوا أمر الغنائم
لرسول الله يضعها كيف شاء كما حكم القرآن فقسمها عليه الصلاة والسلام على السواء الراجل مع الراجل، والفارس مع الفارس وأدخل في الأسهام بعض مَنْ لم يحضر لأمر كُلف به وهم: أبو لُبابة الأنصاري لأنه كان مخلَّفاً على أهل المدينة، والحارث بن حاطب لأن الرسول عليه الصلاة والسلام خلفه على بني عمرو بن عوف ليحقّق أمراً بلغه، والحارث بن الصمَّة وخَوَّات بن جبير لأنهما كُسِرا بالرَّوْحَاءِ فلم يتمكنا من السير، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد لأنهما أُرسِلا يتجسسان الأخبار، فلم يرجعا إلا بعد انتهاء الحرب، وعثمان بن عفان لأن الرسول عليه السلام خلَّفه على ابنته رقيّة يمرضها، وعاصم بن عدي لأنه خلفه على أهل قُباء والعالية وكذلك أسهم لمن قتل ببدر وهم أربعة عشر منهم عُبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الذي جُرح في المبارزة الأولى، فإنه t مات عند رجوع المسلمين من بدر ودفن بالصَّفراء ولما قارب عليه السلام المدينة تلقته الولائد بالدفوف يقلن:
طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله
داع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المُطاع
غزوة بني قَينُقاع
وفي شوال أرسل عُبيدة بن الحارث ابن عم حمزة في ثمانين راكباً من المهاجرين، وعقد له لواء أبيض حمله مِسْطَح بن أُثَاثة ليعترض عيراً لقريش، فيها مِئَتا رجل، فوافوا العير ببطن رابغ فكان بينهما الرمي بالنبل، ثم خاف المشركون أن يكون للمسلمين كمين فانهزموا، ولم يتبعهم المسلمون، وفرّ من المشركين إلى المسلمين المقداد بن الأسود وعتبة بن غَزْوان وكانا قد أسلما وخرجا ليلحقا بالمسلمين.
وفيات
وفي هذه السنة توفي من المهاجرين عثمان بن مظعون أخو
من الرضاع أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين،
ولما دفن أمر عليه الصلاة والسلام بأن يُرَشَّ قبره بالماء،
ووضعَ على قبره حجراً،
وقال: «أَتَعَلَّمُ به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي»،
وهذا كان القصد من وضع الأحجار على المقابر، لا ما يقصده أهل العصور الأخيرة من تشييد الهياكل على القبور، وتصويرها بصور تُرَى في عين الناظر كالأصنام، ليأتي أقارب الميت ويصنعوا عندها احتفالات كثيرة،
تشبه ما كان يفعله مشركو مكة عند معابدهم،
ومات من الأنصار أسعدُ بن زُرارة أحد النقباء الاثني عشر،
كان نقيب بني النجار، ولما مات اختار رسول الله نفسه
للنقابة عليهم لأن ابن أخت القوم منهم
ومات أيضاً البراء بن معرور أحد النقباء،
وهو الذي كان يتكلم عن القوم في العقبة الثانية.
ومات من مشركي مكة في هذه السنة الوليد بن المغيرة، ولما احتُضر جزع فقال له أبو جهل: ما جزعك يا عم؟ فقال: والله ما بي من جزع من الموت، ولكن أخاف أن يظهر دين ابن أبي كبشة بمكة، فقال أبو سفيان: لا تخفْ إني ضامن ألاّ يظهر. وفيها أيضاً مات العاص بن وائل السهمي.
وقد كفى الله المسلمين شر هذين الشقيّين.
السنَّة الثانية : غزوة وَدَّان الأبواء
ولاثنتي عشرة ليلة خَلَت من السنة الثانية خرج رسول الله من المدينة بعد أن استخلف عليها سعد بن عبادة ليعترض عيراً لقريش فسار حتى بلغ وَدّان وكان يحمل لواءه عمّه حمزة ولم يلق هناك حرباً لأن العير كانت قد سبقته وفي هذه الغزوة صالح بني ضمرة على أنهم آمنون على أنفسهم ولهم النصر على من رامَهم وأن عليهم نُصْرَةَ المسلمين إذا دُعوا ثم رجع إلى المدينة بعد مضي خمس عشرة ليلة.
غزوة بُواط
ولم يمض على رجوعِه غير قليل حتى بلغه أن عيراً لقريش آيبة من الشام فيها أمية بن خلف ومائة من قريش وألفان وخمسمائة بعير فسار إليها في مائتين من المهاجرين وذلك في ربيع الأول وكان يحمل لواءه سعدُ بن أبي وقاص فسار حتى بلغ بُواط فوجد العير قد فاتته فرجع ولم يلقَ كيداً وذلك كله لما كان يأخذه المشركون من الحذر على
أنفسهم والاجتهاد في تعمية أخبارهم عن أهل المدينة.
غزوة العُشَيرة
وأعقب رجوعه عليه الصلاة والسلام خروج قريش بأعظم عيرٍ لها فقد جمعوا فيها أموالهم حتى لم يبق بمكة قرشي أو قرشية لها مثقالٌ فصاعداً إلا بعث به في تلك العير وكان يرأسها أبو سفيان بن حرب ومعه بضعة وعشرون رجلاً فخرج لها الرسول في جمادى الأولى ومعه مائة وخمسون من المهاجرين واستخلف على المدينة أبا سلمَة بن عبد الأسد وحمل لواء عمه حمزة ولم يزل سائراً حتى بلغ العُشَيْرة فوجد العير قد مضتْ وحالفَ عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة بني مُدلِج وحلفاءهم ثم رجع عليه الصلاة والسلام
إلى المدينة ينتظر هذه العير حينما ترجع.
غزوة بدر الأولى
وبعد رجوعه عليه الصلاة والسلام بقليل جاء كُرْزُ بن جابر الفِهري وأغار على سَرْح المدينة وهرب فخرج الرسول في طلبه واستخلف على المدينة زيدَ بن حارثة الأنصاري وحمل لواءه علي بن أبي طالب سار حتى بلغ سَفَوان وتُسمى هذه الغزوة بدراً الأولى.
سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة
وفي رجب من هذه السنة أرسل سرية عدّتها ثمانية رجال يرأسها عبد الله بن جحش وأعطاه كتاباً مختوماً لا يَفُضُّه إلا بعد أن يسير يومين ثم ينظر فيه فسار عبدُ الله يومين ثم فتح الكتاب فإذا فيه إذا نظرت كتابي هذا فامضِ حتى تنزل نَخْلَةَ فترصُدَ بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم وإنما لم يخبرهم عليه الصلاة والسلام بمقصدهم وهم بالمدينة حذراً من شيوع الخبر فيدل عليهم أحد الأعداء من المنافقين أو اليهود فترصد لهم قريش
ولا يخفى أن عدد السرية قليل لا يمكنه المقاومة.
ثم سار عبد الله ، وفي أثناء السير تخلَّف سعد بن أبي وقّاص وعُتبة بن غَزوان لأنهما أضلا بعيرهما الذي كانا يعتقبانه، وسار الباقون حتى وصلوا نخلة فمرّت بهم عِير قرشية تريد مكة فيها عمرو بن الحَضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل، والحَكم بن كَيسان، فأجمع المسلمون أمرهم على أن يحملوا عليهم ويأخذوا ما معهم، فحملوا عليهم في آخر يوم من رجب، فقتلوا عمرو بن الحضرمي، وأسروا عثمان والحكم، وهرب نوفل، واستاقوا العِير وهي أولُ غنيمة غنمها المسلمون من أعدائهم قريش ثم رجعوا، ولم يتمكن المشركون من اللحاق بهم. فلما قدموا المدينة وشاع أنهم قاتلوا في الأشهر الحرم، وعابتهم قريش واليهود بذلك، عَنَّفَهم المسلمون،
وقال لهم عليه الصلاة والسلام:
«ما أمرتُكم بقتال في الأشهر الحُرم»
فندموا،
فأنزل الله:
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ )
فَسُرِّي عنهم.
وقد طلب المشركون فداء أسيريهما،
فقال عليه الصلاة والسلام
«حتى يرجعَ سعد وعتبة»،
فلما رجعا قَبِلَ عليه الصلاة والسلام الفدية في الأسيرين،
فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه وبقي مع المسلمين،
وأما عثمان فلحق بمكة كافراً.
تحويل القبلة
مكث عليه الصلاة والسلام بالمدينة ستة عشر شهراً يستقبل
بيت المقدس في صلاته وكان يحبّ أن تكون قبلته الكعبة
ويقلِّبُ وجهه في السماء داعياً الله بذلك فبينما هو في صلاته
إذ أوحى الله إليه بتحويل القبلة إلى الكعبة فتحوّل وتحوَّلَ مَنْ وراءه.
وكانت هذه الحادثة سبباً لافتتان بعض المسلمين الذين ضعفت
قلوبهم فارتدوا على أعقابهم وقد أكثر اليهود من التنديد
على الإسلام بهذا التحويل وما دَرَوا أن لله المشرق
والمغرب يهدي مَنْ يشاءُ إلى صراط مستقيم.
صوم رمضان
وفي شعبان من هذه السنة أوجب الله صوم شهر رمضان على الأمة الإسلامية، وكان عليه الصلاة والسلام قبل ذلك يصوم ثلاثة أيام من كل شهر. والصيام من دعائم هذا الدين، والفرائض التي بها يتمّ النظام، فإن الإنسان مجبول على حبّ نفسه، والسعي فيما يعود عليها بالنفع الخاص، تاركاً ما وراء ذلك من حاجات الضعفاء والمساكين، فلا بدّ من وازِع يزعه لحاجات قوم أقعدتهم قواهم عن إدراك حاجاتهم، ولا أقوى من ذوق قوارص الجوع والعطش، إذ بهما تلين نفسه ويتهذب خلقه، فيسهل عليه بذل الصدقات.
صدقة الفطر
ولذلك أوجب الشّارِع الحكيم عقب الصوم زكاة الفطر فترى
الإنسان يبذلها بسخاء نفس ومحبة خالصة.
زكاة المال
وفي هذا العام فُرضت زكاة الأموال، وهذه هي النظام الوحيد الذي به
يأكل الفقراء والمساكين من إخوانهم الأغنياء بلا ضرر على هؤلاء.
فإذا بلغت الدنانير عشرين أو الدراهم مائتين، وحال عليها الحول، وجب عليك
أن تؤدي ربع عشرها، أي اثنين ونصفاً في كل مائة، وما زاد فبحسابه.
وإذا بلغت الشياه أربعين، والبقر ثلاثين، والإبل خمساً، وحال عليها الحول وجب عليك كذلك أن تؤدي منها جرءاً مخصوصاً حدده الشّارِع، ومثلها عروض التجارة، ومحصولات الزراعة كل هذا يقبضه الإمام ويوزعه على مستحقيه من الفقراء والمساكين وبقية المذكورين
في آية الصدقة:
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ
وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
واللبيب العاقل البعيد عن التعصب يحكم لأول نظرة أن هذا النظام مع عدم إضراره بالأغنياء مقلل لمصائب الفقر التي ألجأت كثيراً من فقراء الأمم أن يخالفوا نظام دولهم ويؤسسوا مبادئ تقويض وتداعي الأمن كما يفعله الاشتراكيون وغيرهم.
غزوة بدر الكبرى
لم يطل العهد بتلك العِير العظيمة التي خرج لها وهي متوجهة إلى الشام
فلم يدركها ولم يزل مترقباً رجوعها فلما سمع برجوعها
نَدَبَ إليها أصحابَهُ وقال:
«هذه عيرُ قريش فاخرجوا إليها لعلّ الله أن ينفلكموها»،
فأجاب قوم وثَقُلَ آخرون لظنهم أن الرسول لم يُرِدْ حرباً،
فإنه لم يحتفل بها بل
قال: «من كان ظهره حاضراً فليركبْ معنا».
ولم ينتظر من كان ظهره غائباً.
فخرج لثلاثِ ليالٍ خَلَوْنَ من رمضان بعد أن ولَّى على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم، وكان معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً: مئتان ونيف وأربعون من الأنصار، والباقون من المهاجرين ومعهم فَرَسان وسبعون بعيراً يعتقبونها والحامل للواء مصعب بن عمير العَبْدري.
ولما علم أبو سفيان بخروج الرسول استأجر راكباً ليأتي قريشاً ويخبرهم الخبر فلما علموا بذلك أدركتهم حميتهم وخافوا على تجارتهم فنفروا سِراعاً ولم يتخلف من أشرافهم إلا أبو لهب بن عبد المطلب فإنه أرسل بدله العاص بن هشام بن المغيرة وأراد أمية بن خلف أن يتخلَّف لحديث حدَّثه إياه سعد بن معاذ حينما كان معتمراً بعد الهجرة بقليل حيث
قال: سمعتُ من رسول الله يقول:
((إنهم قاتلوك قال: بمكة قال: لا أدري ففزع لذلك وحلف ألاَّ يخرج فعابه أبو جهل ولم يزل به حتى خرج قاصداً الرجوع بعد قليل ولكن إرادة الله فوق كل إرادة فإن منيته ساقته إلى حتفه رغم أنفه وكذلك عَزَمَ جماعةٌ من الأشراف على القعود فَعِيْبَ عليهم ذلك))
وبهذا أجمعتْ رجالُ قريش على الخروج، فخرجوا على الصعب والذلول،
أمامهم القَيْنات يغنين بهجاء المسلمين:
(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ
الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ)
أما رسول الله فلم يكن يعرف شيئاً مما فعله المشركون، ولم يكن خروجه إلا للعير، فعسكر ببيوت السُّقْيا خارج المدينة، واستعرض الجيش فردَّ مَنْ ليس له قدرة على الحرب، ثم أرسل اثنين يتجسسان الأخبار عن العير. ولما بلغ الرَّوْحاء جاءه الخبر بمسير قريش لمنع عيرهم، وجاءه مخبراه بأن العير ستصل بدراً غداً أو بعد غد، فجمع عليه الصلاة والسلام كبراء الجيش وقال لهم:
«أيّها الناس إنَّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين أنها لكم: العير أو النفير»
فتبين له عليه الصلاة والسلام أن بعضهم يريدون غير ذات الشوكة وهي العير
ليستعينوا بما فيها من الأموال، فقد قالوا: هلاّ ذكرت لنا القتال فنستعد وجاء
مصداق ذلك قوله تعالى:
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)
ثم قام المقداد بن الأسود فقالَ: يا رسول الله امضِ لما أمرك الله،
فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
(فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون،
والله لو سرت بنا إلى بَرْكَ الغِمَاد لجالدنا معك
من دونه حتى تبلغه، فدعا له بخير.
ثم قال عليه الصلاة والسلام:
«أشيروا عليّ أيّها الناس»
وهو يريد الأنصار لأن بيعة العقبة ربما يفهم منها أنه لا تَجِب عليهم نصرته إلا ما دام بين أظهرهم. فإن فيها: يا رسول الله إنَّا بُرآء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فقال سعد بن معاذ، سيد الأوس: كأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال: «أجل» فقال سعد: قد آمنا بك وصدّقناك، وأعطيناك على ذلك عهودنا، فامضِ لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك، وما نكره أن تكون
تلقى العدو بنا غداً، إنّا لصُبُر عند الحرب، صُدُق عند اللقاء،
ولعلّ الله يُريك منّا ما تقرّ به عَيْنُك، فسر على بركة الله.
فأشرق وجهه عليه الصلاة والسلام، وسُرّ بذلك،
وقال كما في رواية البخاري:
«أبشروا والله كأني أنظر إلى مصارع القوم»
فَعلم القومُ من هذه الجملة أن الحرب لا بدّ حاصلة، وحقيقةً حصلت، فإن أبا سفيان لما علم بخروج المسلمين له ترك الطريق المسلوكة، وسار متّبعاً ساحل البحر فنجا، وأرسل إلى قريش يُعلِمهم بذلك، ويشير عليهم بالرجوع، فقال أبو جهل: لا نرجع حتى نحضر بدراً فنقيم فيه ثلاثاً: ننحر الجَزور، ونطعم الطعام، ونُسقي الخمر، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً. فقال الأخنس بن شريق الثقفي لبني زهرة وكان حليفاً لهم : ارجعوا يا قوم فقد نجَّى الله أموالكم فرجعوا، ولم يشهد بدراً زهري ولا عدوي، ثم سار الجيش حتى وصلوا وادي بدر فنزلوا عدوته القصوى عن المدينة في أرض سهلة لينة.
أما جيش المسلمين، فإنه لمّا قارب بدراً أرسل عليه الصلاة والسلام عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوّام ليعرفا الأخبار، فصادفا سُقاةً لقريش فيهم غلام لبني الحجاج وغلام لبني العاص السهميين، فأتيا بهما، والرسول عليه السلام قائم يصلي، ثم سألاهما عن أنفسهما، فقالا: نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم الماء، فضرباهما لأنهما ظنا أن الغلامين لأبي سفيان. فقال الغلامان: نحن لأبي سفيان فتركاهما.
ولما أتمَّ الرسول عليه السلام صلاته، قال:
«إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما؟
صدقا والله إنهما لقريش».
ثم قال لهما: «أخبراني عن قريش؟»
قالا: هم وراء هذا الكَثيب،
فقال لهما: «كم هم؟»
فقالا: لا ندري.
قال: «كم ينحرون كل يوم؟».
قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً.
قال: «القوم ما بين التسعمائة والألف»،
ثم سألهما عمّن في النفير من أشراف قريش فذكرا له عدداً عظيماً،
فقال عليه السلام لأصحابه:
«هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها»
ثم ساروا حتى نزلوا بعُدْوَةِ الوادي الدنيا من المدينة بعيداً عن الماء في أرض سبخة، فأصبح المسلمون عطاشاً بعضهم جُنب وبعضهم مُحْدِث، فحدَّثهم الشيطان بوسوسته، ولولا فضل الله عليهم ورحمته لثنيت عزائمهم، فإنه قال لهم: ما ينتظر المشركون منكم إلا أن يقطع العطش رقابكم، ويُذهِب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاؤوا.
فأرسل الله لهم الغيث حتى سال الوادي، فشربوا واتخذوا
الحِياض على عُدْوَةِ الوادي، واغتسلوا وتوضؤوا وملؤوا الأسقية،
ولبدت الأرض، حتى ثبتت عليها الأقدام
على حين أن كان هذا المطر مصيبة على المشركين
فإنه وَحَّل الأرض حتى لم يعودوا يقدرون على الارتحال.
ومصداق هذا قوله تعالى:
(وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَآء مَآء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ
رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الاْقْدَامَ)
وقد أرى الله رسوله في منامه الأعداء كما أراهموه وقت اللقاء
قليلي العدد كيلا يفشل المسلمون وليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
قال تعالى:
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ
وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَلَاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(43)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ
لِيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ)
وبعد انقضاء هذه المبارزة، وقف عليه الصلاة والسلام بين الصفوف يعدِلها بقضيب في يده، فمرّ بسواد بن غَزِية حليف بني النجار وهو خارج من الصف،
فضربه بالقضيب في بطنه وقالَ:
«استقم يا سواد»،
فقال أوجعتني يا رسول الله وقد بُعثت بالحق والعدل فَأَقِدْني من نفسك.
فكشف الرسول عليه الصلاة والسلام عن بطنه،
وقال: «استقد يا سواد»،
فاعتنقه سواد وقبَّل بطنه.
فقال عليه الصلاة والسلام:
«ما حملك على ذلك؟»
فقال يا رسول الله قد حضر ما ترى فأردتُ أن يكون آخر العهد
أن يمسّ جلدي جلدَك، فدعا له بخير.
واشتد القتال، وحمي الوطيس، وأيد الله المسلمين بالملائكة بُشرى لهم ولتطمئن به قلوبهم. فلم تكن إلا ساعة حتى هُزم الجمع، وولّوا الدُّبُرَ، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون،
فقتل من المشركين نحوُ السبعين، منهم من قريش:
عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، قُتلوا مبارزة أول القتال، وأبو البَخْتري بن هشام، والجراح والد أبي عبيدة قتله ابنه بعد أن ابتعد عنه فلم يزدجر، وقُتل أُمية بن خلف وابنه علي، اشترك في قتلهما جماعة من الأنصار مع بلال بن رباح وعمّار بن ياسر، وقد سعيا في ذلك لما كان يفعله بهما أُمَيّةُ في مكة. ومن القتلى حنظلة بن أبي سفيان، وأبو جهل بن هشام، أثخنه فَتيان صغيران من الأنصار، لما كانا يسمعانه من أنه كان شديدَ الإيذاء لرسول الله ، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود، وقُتل نوفل بن خويلد قتله علي بن أبي طالب، وقتل عبيدة والعاصي ولدا أبي أُحَيْحَةَ سعيدِ بنِ العاصِ بنِ أمية، وقُتِل كثيرون غيرهم.
أما الأسرى فكانوا سبعين أيضاً،
قتلَ منهم عليه الصلاة والسلام وهو راجع عقبة َبن أبي مُعيط،
والنضر َبن الحارث اللذين كانا بمكة من أشد المستهزئين
وكانت هذه الواقعة في 17 رمضان وهو اليوم الذي ابتدأ فيه نزول
القرآن وبين التاريخين 14 سنة قمرية كاملة.
وقد أمر عليه الصلاة والسلام بالقتلى فنُقلوا من مصارعهم التي كان الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بها قبل حصول الموقعة إلى قليب بدر، لأنه عليه السلام كان من سُننه في مغازيه إذا مرّ بجيفة إنسان أمر بها فدفنت، لا يسأل عنه مؤمناً أو كافراً. ولما ألقي عتبة والد أبي حذيفة أحد السابقين إلى الإسلام تغير وجه ابنه
ففطن الرسول عليه السلام لذلك، فقال:
«لعلّك دخلك من شأن أبيك شيء؟»
فقال: لا والله ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً،
فكنت أرجو أن يهديه الله للإسلام،
فلما رأيت ما مات عليه أحزنني ذلك،
فدعا له الرسول عليه والصلاة السلام بخير،
ثم أمر عليه السلام براحِلته فشُدَّ عليها حتى قام على شَفَةِ القليب
الذي رمي فيه المشركون،
فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم:
«يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسرّكم أنكم كنتم أطعتم الله ورسوله؟
فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟»
فقال عمر: يا رسول الله ما تُكَلِّمُ من أجساد لا أرواح فيها؟
فقال:
«والذي نفسُ محمد بيده ما أنتم بأسمَعَ لما أقولُ منهم».
وتقول عائشة إنما قال:
«إنهم الآن ليعلمون أَنَّ ما كنتُ أقول لهم حق»،
يقول: «يعلمون ذلك حينما تبوّؤوا مقاعدهم من النار»
ثم أرسل عليه السلام المبشرين فأرسل عبد الله بن رواحة لأهل العالية
وأرسل زيد بن حارثة لأهل السافلة راكباً على ناقة رسول الله وكان المنافقون
والكفار من اليهود قد أرجفوا بالرسول والمسلمين عادة الأعداء في إذاعة الضرّاء يقصدون بذلك فتنة المسلمين فجاء أولئك المبشرون بما سرّ أهل المدينة
وكان ذلك وقت انصرافهم من دفن رقية بنت رسول الله وزوج عثمان.
ثم قفل رسول الله راجعاً، وهنا وقع خُلف بين بعض المسلمين في قسمة الغنائم، فالشبان يقولون: باشرنا القتال، فهي لنا خالصة، والشيوخ يقولون: كنا ردءاً لكم فنشارككم. ولما كان هذا الاختلاف مما يدعو إلى الضعف، ويزرع في القلوب العداوة والبغضاء المؤديين إلى تشتت الشمل أنزل الله حسماً لهذا الخلاف
قال تعالى:
({يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ)
فسطع على أفئدتهم نور القرآن، فتألّفت بعد أن كادت تفترق، وتركوا أمر الغنائم
لرسول الله يضعها كيف شاء كما حكم القرآن فقسمها عليه الصلاة والسلام على السواء الراجل مع الراجل، والفارس مع الفارس وأدخل في الأسهام بعض مَنْ لم يحضر لأمر كُلف به وهم: أبو لُبابة الأنصاري لأنه كان مخلَّفاً على أهل المدينة، والحارث بن حاطب لأن الرسول عليه الصلاة والسلام خلفه على بني عمرو بن عوف ليحقّق أمراً بلغه، والحارث بن الصمَّة وخَوَّات بن جبير لأنهما كُسِرا بالرَّوْحَاءِ فلم يتمكنا من السير، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد لأنهما أُرسِلا يتجسسان الأخبار، فلم يرجعا إلا بعد انتهاء الحرب، وعثمان بن عفان لأن الرسول عليه السلام خلَّفه على ابنته رقيّة يمرضها، وعاصم بن عدي لأنه خلفه على أهل قُباء والعالية وكذلك أسهم لمن قتل ببدر وهم أربعة عشر منهم عُبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الذي جُرح في المبارزة الأولى، فإنه t مات عند رجوع المسلمين من بدر ودفن بالصَّفراء ولما قارب عليه السلام المدينة تلقته الولائد بالدفوف يقلن:
طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله
داع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المُطاع
غزوة بني قَينُقاع
يتبع
رد: سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام
غزوة بني قَينُقاع
هذا، وإذا كان للشخص عدوَّان فانتصر على أحدهما حَرَّك ذلك شجو الآخر، وهاج فؤاده، فتبدو بغضاؤه غير مكترث بعاقبة عدائه، وهذا ما حصل من يهود بني قينقاع عند تمام الظفر في بدر، فإنهم نبذوا ما عاهدوا المسلمين عليه، وأظهروا مكنون ضمائرهم، فبدت البغضاء من أفواههم، وانتهكوا حرمة سيدة من نساء الأنصار، وهذا ما يدعو المسلمين للتحرّز منهم وعدم ائتمانهم في المستقبل إذا شبّت الحرب في المدينة بين المسلمين وغيرهم،
فأنزل الله :
(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْإِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ)
فدعا عليه الصلاة والسلام رؤساءهم وحذّرهم عاقبة البغي ونكث العهد، فقالوا: يا محمد لا يغرنّك ما لقيت من قومك فإنهم لا علم لهم بالحرب ولو لقيتنا لَتعلمَن أنّا نحن الناس، وكانوا أشجع يهود
فأنزل الله:
(قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12)
قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ
مَن يَشَآء إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً لاِوْلِى الاْبْصَارِ)
وعندما تظاهر يهود قينقاع بالعداوة وتحصنوا بحصونهم، سار إليهم عليه الصلاة والسلام في نصف شوال من هذه السنة، يحمل لواءه عمه حمزة، وخلَّف على المدينة أبا لبابة الأنصاري، فحاصرهم خمس عشرة ليلة.
جلاء بني قينقاع
ولما رأوا من أنفسهم العجز عن مقاومة المسلمين، وأدركهم الرعب، سألوا رسول الله r أن يخلي سبيلهم، فيخرجوا من المدينة ولهم النساء والذريّة، وللمسلمين الأموال. فقَبِل ذلك عليه الصلاة والسلام، ووكَّل بجلائهم عبادة بن الصامت وأمهلهم ثلاث ليالٍ، فذهبوا إلى أَذْرعات، ولم يحل عليهم الحَوْل حتى هلكوا، وخمَّس عليه الصلاة والسلام أموالهم، وأعطى سهم ذوي القربى لبني هاشم ولبني المطلب دون بني أخويهما عبد شمس ونوفل، ولما سُئِل عن ذلك قال:
«إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد في الجاهلية والإسلام هكذا»،
وشبك بين أصابعه.
هذا، وإذا كان للشخص عدوَّان فانتصر على أحدهما حَرَّك ذلك شجو الآخر، وهاج فؤاده، فتبدو بغضاؤه غير مكترث بعاقبة عدائه، وهذا ما حصل من يهود بني قينقاع عند تمام الظفر في بدر، فإنهم نبذوا ما عاهدوا المسلمين عليه، وأظهروا مكنون ضمائرهم، فبدت البغضاء من أفواههم، وانتهكوا حرمة سيدة من نساء الأنصار، وهذا ما يدعو المسلمين للتحرّز منهم وعدم ائتمانهم في المستقبل إذا شبّت الحرب في المدينة بين المسلمين وغيرهم،
فأنزل الله :
(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْإِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ)
فدعا عليه الصلاة والسلام رؤساءهم وحذّرهم عاقبة البغي ونكث العهد، فقالوا: يا محمد لا يغرنّك ما لقيت من قومك فإنهم لا علم لهم بالحرب ولو لقيتنا لَتعلمَن أنّا نحن الناس، وكانوا أشجع يهود
فأنزل الله:
(قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12)
قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ
مَن يَشَآء إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً لاِوْلِى الاْبْصَارِ)
وعندما تظاهر يهود قينقاع بالعداوة وتحصنوا بحصونهم، سار إليهم عليه الصلاة والسلام في نصف شوال من هذه السنة، يحمل لواءه عمه حمزة، وخلَّف على المدينة أبا لبابة الأنصاري، فحاصرهم خمس عشرة ليلة.
جلاء بني قينقاع
ولما رأوا من أنفسهم العجز عن مقاومة المسلمين، وأدركهم الرعب، سألوا رسول الله r أن يخلي سبيلهم، فيخرجوا من المدينة ولهم النساء والذريّة، وللمسلمين الأموال. فقَبِل ذلك عليه الصلاة والسلام، ووكَّل بجلائهم عبادة بن الصامت وأمهلهم ثلاث ليالٍ، فذهبوا إلى أَذْرعات، ولم يحل عليهم الحَوْل حتى هلكوا، وخمَّس عليه الصلاة والسلام أموالهم، وأعطى سهم ذوي القربى لبني هاشم ولبني المطلب دون بني أخويهما عبد شمس ونوفل، ولما سُئِل عن ذلك قال:
«إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد في الجاهلية والإسلام هكذا»،
وشبك بين أصابعه.
غزوة السَّويق
كان أبو سفيان متهيجاً، لأنه لم يشهد بدراً التي قتل فيها ابنه وذوو قرباه فحلف ألاّ يمسّ رأسه الماء حتى يغزو محمداً، وليبرّ بقسمه خرج بمائتين من أصحابه يريد المدينة، ولما قارَبها، أراد أن يقابل اليهود من بني النضير ليهيجهم، ويستعين بهم على حرب المسلمين، فأتى سيدهم حُيَيَّ بن أَخْطَب فلم يرضَ مقابلته، فأتى سَلاّم بن مِشْكم فأذن له واجتمع به، ثم خرج من عنده، وأرسل رجالاً من قريش إلى المدينة، فحرَّقوا في بعض نخلها، ووجدوا أنصارياً فقتلوه، ولما علم بذلك رسول الله r، خرج في أثرهم في مائتين من أصحابه، لخمس خَلَون من ذي الحجة، بعد أن ولّى على المدينة بَشِير بن عبد المنذر، ولكن لم يلحقهم، لأنهم هربوا وجعلوا يخفّفون ما يحملونه ليكونوا أقدر على الإسراع، فألقوا ما معهم من جربِ السَّوِيق، فأخذه المسلمون، ولذلك سميت هذه الغزوة بغزوة السَّوِيق.
صلاة العيد
كان أبو سفيان متهيجاً، لأنه لم يشهد بدراً التي قتل فيها ابنه وذوو قرباه فحلف ألاّ يمسّ رأسه الماء حتى يغزو محمداً، وليبرّ بقسمه خرج بمائتين من أصحابه يريد المدينة، ولما قارَبها، أراد أن يقابل اليهود من بني النضير ليهيجهم، ويستعين بهم على حرب المسلمين، فأتى سيدهم حُيَيَّ بن أَخْطَب فلم يرضَ مقابلته، فأتى سَلاّم بن مِشْكم فأذن له واجتمع به، ثم خرج من عنده، وأرسل رجالاً من قريش إلى المدينة، فحرَّقوا في بعض نخلها، ووجدوا أنصارياً فقتلوه، ولما علم بذلك رسول الله r، خرج في أثرهم في مائتين من أصحابه، لخمس خَلَون من ذي الحجة، بعد أن ولّى على المدينة بَشِير بن عبد المنذر، ولكن لم يلحقهم، لأنهم هربوا وجعلوا يخفّفون ما يحملونه ليكونوا أقدر على الإسراع، فألقوا ما معهم من جربِ السَّوِيق، فأخذه المسلمون، ولذلك سميت هذه الغزوة بغزوة السَّوِيق.
صلاة العيد
وفي هذا العام سنّ الله للعالم الإسلامي سنّة عظيمة، بها يتمكن أبناء البلد الواحد من المسلمين أن يجددوا عهود الإِخاء، ويقووا عُروة الدين الوثقى، وهي الاجتماع في يومي عيد الفطر وعيد الأضحى. وكان عليه الصلاة والسلام يجمع المسلمين في صعيد واحد، ويصلي بهم ركعتين تضرعاً إلى الله أن لا يَفْصِم عروتهم، وأن ينصرهم على عدوهم،
ثم يخطبهم حاضَّاً لهم على الائتلاف،
ثم يخطبهم حاضَّاً لهم على الائتلاف،
ومذكراً لهم ما يجب عليهم لأنفسهم، ثم يصافح المسلمون بعضهم بعضاً، وبعد ذلك يخرجون لأداء الصدقات للفقراء والمساكين، حتّى يكون السرور عامّاً لجميع المسلمين، فبعد الفطر زكاته، وبعد الأضحى تضحيته، نسأله تعالى أن يؤلّف بين قلوبنا، ويوفّقنا لأعمال سلفنا.
زواج علي بفاطمة عليهما السلام
في هذه السنة تزوج علي بن أبي طالب وعمره إحدى وعشرون سنة
بفاطمة بنت رسول الله وسنها خمس عشرة سنة،
وكان منها عقب رسول الله بنوه: الحسن والحسين وزينب.
في هذه السنة تزوج علي بن أبي طالب وعمره إحدى وعشرون سنة
بفاطمة بنت رسول الله وسنها خمس عشرة سنة،
وكان منها عقب رسول الله بنوه: الحسن والحسين وزينب.
وفيها دخل عليه الصلاة والسلام بعائشة بنت أبي بكر
وسِنُّها إذ ذاك تسع سنوات.
وسِنُّها إذ ذاك تسع سنوات.
وفي هذا العام توفي عثمان بن مظعون لا كما ذكر سابقا أن توفي في العام الأول.
السَّنة الثّالِثَة سرية محمد بن مسلمة وقتل كعب بن الأشرف
السَّنة الثّالِثَة سرية محمد بن مسلمة وقتل كعب بن الأشرف
ولما انتصر المسلمون ببدر ورأى الأسرى مقرَّنينَ في الحبال خرج إلى قريش يبكي قتلاهم ويحرِّضهُم على حرب المسلمين فقال عليه الصلاة والسلام من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله فقال محمد بن مسلمة الأنصاري الأوسي أتحِبُّ أن أقتله قال نعم قال: أنا لك به وائذنْ لي أقول شيئاً أتمكن به فأذن له ثم خرج ومعه أربعة من قومه حتى أتى كعباً فقال له إن هذا الرجل يريد رسول الله قد سألنا صدقة وإنه قد عَنَّانا وإني قد أتيتك أستسلفك قال وأيضاً والله لتملّنهُ قال إنا قد اتّبعناه فلا نحبُّ أن ندعه حتى ننظر إلى أيّ شيء يصير شأنه وقد أردنا أن تُسْلِفنا وسْقاً أو وسقين قال نعم ولكن ارْهَنُوني قالوا أي شيء تُريد قال ارهنوني نساءكم قالوا كيف نَرْهَنُك نساءنا وأنت أجمل العرب قال فارهنوني أبناءكم قالوا كيف نرهنك أبناءنا فَيُسَبُّ أحدهم فيقال رُهن بوسق أو وسقين هذا عار علينا ولكن نرهنك اللأْمَةَ يعني السلاح فرضي فواعده ليلاً أن يأتيه فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة أخو كعب من الرضاع وعبَّاد بن بِشر والحارث بن أوس وأبو عبس ابنُ جَبْر وكلهم أوسيّون فناداه محمد بن مسلمة فأراد أن ينزلَ فقالت له امرأته أين تخرج الساعة وإنك امرؤ مُحارب فقال: إنما هو ابن أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة إن الكريم لو دُعي إلى طعنة بليل لأجاب ثم قال محمد لمن معه إذا جاءني فإني آخذ بشعره فأشَمُّهُ فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه
فاضربوه فنزل إليهم كعب متوشِّحاً سيفه وهو
فاضربوه فنزل إليهم كعب متوشِّحاً سيفه وهو
يَنْفَحُ منه ريح المسك فقال محمد ما رأيت كاليوم ريحاً أطيب أتأذن لي أن أَشمَّ رأسك قال نعم فشمَّه فلما استمكن منه قال دونكم فاقتلوه ففعلوا وأراح الله المسلمين من شر أعماله التي كان يقصدها بهم ثم أتوا النبي فأخبروه وكان قتل هذا الشقي في ربيع الأول من هذا العام وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى من رئيس غدراً ومقاصد سوء ومحبة لإثارة الحرب أرسل له من يُريحه من شرّه وقد فعل كذلك مع أبي عَفَك اليهودي وكان مثل كعب في الشر.
غزوة غَطَفَان
بلغ رسول الله أن بني ثعلبة ومحارب من غطفان تجمعوا برياسة رئيس منهم اسمه دُعْثُور يريدون الغارة على المدينة فأراد عليه الصلاة والسلام أن يَغُلَّ أيديهم كيلا يتمكنوا من هذا الاعتداء فخرج إليهم من المدينة في أربعمائة وخمسين رجلاً لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول وخلف على المدينة عثمان بن عفان وحدث أنه عليه الصلاة والسلام نزع ثوبه يجفِّفه من مطر بلَّله وارتاح تحت شجرة والمسلمون متفرقون فأبصره دُعثور فأقبل إليه بسيفه حتى وقف على رأسه وقال مَنْ يمنعك مني يا محمد فقال الله فأدركت الرجل هيبةٌ ورعبٌ أسقطا السيف من يده فتناوله عليه الصلاة والسلام وقال لدعثور مَنْ يمنعك مني قال لا أحد فعفا عنه فأسلم الرجل ودعا قومه للإسلام وحوّل الله قلبه من عداوة رسول الله
وَجمْع الناس لحربه إلى محبته وجمع الناس له
(ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآء)
وهذا ما ينتجه حسن المعاملة والبعد عن الفظاظة وغلظ القلب
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ
لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ)
غزوة بُحْران
بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعاً من بني سُليم يريدون الغارة على المدينة فسار إليهم في ثلاثمائة من أصحابه لِسِتَ خَلَون من جمادى الأولى وخلَّف على المدينة ابن أم مكتوم ولما وصل بُحران تفرقوا ولم يلق كيداً فرجع.
بلغ رسول الله أن بني ثعلبة ومحارب من غطفان تجمعوا برياسة رئيس منهم اسمه دُعْثُور يريدون الغارة على المدينة فأراد عليه الصلاة والسلام أن يَغُلَّ أيديهم كيلا يتمكنوا من هذا الاعتداء فخرج إليهم من المدينة في أربعمائة وخمسين رجلاً لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول وخلف على المدينة عثمان بن عفان وحدث أنه عليه الصلاة والسلام نزع ثوبه يجفِّفه من مطر بلَّله وارتاح تحت شجرة والمسلمون متفرقون فأبصره دُعثور فأقبل إليه بسيفه حتى وقف على رأسه وقال مَنْ يمنعك مني يا محمد فقال الله فأدركت الرجل هيبةٌ ورعبٌ أسقطا السيف من يده فتناوله عليه الصلاة والسلام وقال لدعثور مَنْ يمنعك مني قال لا أحد فعفا عنه فأسلم الرجل ودعا قومه للإسلام وحوّل الله قلبه من عداوة رسول الله
وَجمْع الناس لحربه إلى محبته وجمع الناس له
(ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآء)
وهذا ما ينتجه حسن المعاملة والبعد عن الفظاظة وغلظ القلب
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ
لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ)
غزوة بُحْران
بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعاً من بني سُليم يريدون الغارة على المدينة فسار إليهم في ثلاثمائة من أصحابه لِسِتَ خَلَون من جمادى الأولى وخلَّف على المدينة ابن أم مكتوم ولما وصل بُحران تفرقوا ولم يلق كيداً فرجع.
سرية زيد بن حارثة إلى القزدة
لما تيقنت قريش أن طريق الشام من جهة المدينة أُغلق في وجه تجارتهم ولا يمكنهم الصبر عنها لأن بها حياتهم أرسلوا عِيراً إلى الشام من طريق العراق وكان فيها جمع من قريش منهم أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى فجاءت أخبارهم لرسول الله فأرسل لهم زيد بن حارثة في مائة راكب يترقبونهم وكان ذلك في جمادى الآخرة فسارت السرية حتى لقيت العِير على ماء اسمه القَرْدَة بناحية نجد فأخذت العِير وما فيها وهرب الرجال وقد خمَّس الرسول عليه الصلاة والسلام هذه حينما وصلت له.
غزوة أُحُد
لما تيقنت قريش أن طريق الشام من جهة المدينة أُغلق في وجه تجارتهم ولا يمكنهم الصبر عنها لأن بها حياتهم أرسلوا عِيراً إلى الشام من طريق العراق وكان فيها جمع من قريش منهم أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى فجاءت أخبارهم لرسول الله فأرسل لهم زيد بن حارثة في مائة راكب يترقبونهم وكان ذلك في جمادى الآخرة فسارت السرية حتى لقيت العِير على ماء اسمه القَرْدَة بناحية نجد فأخذت العِير وما فيها وهرب الرجال وقد خمَّس الرسول عليه الصلاة والسلام هذه حينما وصلت له.
غزوة أُحُد
ولما أصابَ قريشاً ما أصابها ببدر، وأُغْلِقت في وجوههم طرق التجارة، اجتمع مَنْ بقي من أشرافهم إلى أبي سفيان رئيس تلك العير التي جلبت عليهم المصائب، وكانت موقوفة بدار الندوة، ولم تكن سُلِّمت لأصحابها بعد، فقالوا: إن
محمداً قد وَتَرنا، وقتل خيارنا، وإنّا رضينا أن نتركَ ربح أموالنا فيها، استعداداً لحرب محمد وأصحابه، وقد رضي بذلك كلُّ من له فيها نصيب، وكانَ ربحها نحواً من خمسين ألف دينار، فجمعوا لذلك الرجال، فاجتمع من قريش ثلاثة آلاف رجل ومعهم الأحابيش وهم حلفاؤهم من بني المصْطَلق وبني الهون بن خزيمة، ومعهم أبو عامر الراهب الأوسي، وكان قد فارق المدينة كراهية لرسول الله r ومعه عدد ممّن هم على شاكلته، وخرج معهم جماعات من أعراب كِنانة وتهامة، وقال صفوان بن أمية لأبي عَزّةَ الشاعر الذي لا ينسى القارىء أن الرسول مَنَّ عليه ببدر وأطلقه من غير فداء : إنك رجل شاعر فأعِنّا بلسانك، فقال: إني عاهدت محمداً ألاّ أعِين عليه، وأخاف إن وقعتُ في يده مرة ثانية ألا أنجو، فلم يزل به صفوان حتى أطاعه، وذهب يستنفر الناس لحرب المسلمين، ودعا جُبير بن مُطْعِمٍ غلاماً حبشياً له، اسمه وَحشي، وكان رامياً قلّما يُخطىء، فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة بعمِّي طُعَيْمة فأنت حر. ثم خرج الجيش، ومعهم القِيانُ والدفوف والمعازف والخمور، واصطحب الأشرافُ منهم نساءهم كيلا ينهزموا، ولم يزالوا سائرين حتى نزلوا مقابل المدينة بذي الحُلَيفة.
أما رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان قد بلغه الخبر من كتاب بعث به إليه عمه العباس بن عبد المطلب، الذي لم يخرج مع المشركين في هذه الحرب، محتجّاً بما أصابه يوم بدر. ولما وصلت الأخبار باقتراب المشركين،
جمع عليه الصلاة والسلام أصحابه وأخبرهم الخبر، وقال:
«إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن هم أقاموا
أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم»
فكان مع رأيه شيوخ المهاجرين والأنصار ورأى ذلك أيضاً عبد الله بن أُبيّ، أما الأحداث وخصوصاً مَنْ لم يشهد بدراً منهم فأشاروا عليه بالخروج، وكان مع رأيهم حمزة بن عبد المطلب، وما زال هؤلاء بالرسول حتى تبع رأيهم، لأنهم الأكثرون عدداً والأقوون جلداً فصلى الجمعة بالناس في يومها لعشر خَلَون من شوال، وحضّهم في خطبتها على الثبات والصبر
وقال لهم:
«لكم النصر ما صبرتم»
ثم دخل حجرته، ولبس عدّته، فظاهر بين درعين، وتقلد السيف، وألقى الترس وراء ظهره. ولما رأى ذوو الرأي من الأنصار أن الأحداث استكرهوا الرسول على الخروج لاموهم، وقالوا: ردّوا الأمر لرسول الله ، فما أمر ائتمرنا، فلما خرج عليه الصلاة والسلام،
قالوا: يا رسول الله نَتَّبعُ رأيك، فقال:
«ما كان لنبي لَبِسَ سلاحه أن يضعه حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه»
ثم عقد الألوية فأعطى لواء المهاجرين لمصعب بن عمير، ولواء الخزرج للحُباب بن المنذر، ولواء الأوس لأُسيد بن الحضير، وخرج من
جمع عليه الصلاة والسلام أصحابه وأخبرهم الخبر، وقال:
«إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن هم أقاموا
أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم»
فكان مع رأيه شيوخ المهاجرين والأنصار ورأى ذلك أيضاً عبد الله بن أُبيّ، أما الأحداث وخصوصاً مَنْ لم يشهد بدراً منهم فأشاروا عليه بالخروج، وكان مع رأيهم حمزة بن عبد المطلب، وما زال هؤلاء بالرسول حتى تبع رأيهم، لأنهم الأكثرون عدداً والأقوون جلداً فصلى الجمعة بالناس في يومها لعشر خَلَون من شوال، وحضّهم في خطبتها على الثبات والصبر
وقال لهم:
«لكم النصر ما صبرتم»
ثم دخل حجرته، ولبس عدّته، فظاهر بين درعين، وتقلد السيف، وألقى الترس وراء ظهره. ولما رأى ذوو الرأي من الأنصار أن الأحداث استكرهوا الرسول على الخروج لاموهم، وقالوا: ردّوا الأمر لرسول الله ، فما أمر ائتمرنا، فلما خرج عليه الصلاة والسلام،
قالوا: يا رسول الله نَتَّبعُ رأيك، فقال:
«ما كان لنبي لَبِسَ سلاحه أن يضعه حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه»
ثم عقد الألوية فأعطى لواء المهاجرين لمصعب بن عمير، ولواء الخزرج للحُباب بن المنذر، ولواء الأوس لأُسيد بن الحضير، وخرج من
المدينة بألف رجل. فلما وصلوا رأس الثنية، نظر عليه الصلاة والسلام إلى كتيبة كبيرة، فسأل عنها، فقيل: هؤلاء حلفاء عبد اللهبن أُبيّ من اليهود،
فقال: «إنّا لا نستعين بكافر على مشرك»
وأمر بردّهم لأنه لا يأمن جانبهم من حيث لهم اليد الطُولى في الخيانة. ثم استعرض الجيش فردَّ من استصغر، وكان فيمن ردّ: رافع بن خديج، وسَمُرَة بن جُندب، ثم أجاز رافعاً لما قيل له إنه رامٍ، فبكى سَمُرة، وقال لزوج أمه أجاز رسول الله رافعاً وردّني مع أني أصرعه فبلغ رسول الله الخبر فأمرهما بالمصارعة فكان الغالب سمرة، فأجازه. ثم بات عليه الصلاة والسلام محله ليلة السبت، واستعمل على حرس الجيش محمد بن مسلمة، وعلى حرسه الخاص ذكوان بن عبد قيس. وفي السَّحَر سار الجيش حتى إذا كان بالشَّوْطِ وهو بستان بين أُحُد والمدينة رجع عبد الله بن أُبَيَ بثلاثمائة من أصحابه وقال: عصاني وأطاع الوِلْدان فعلام نقتل أنفسنا؟
فتبعهم عبد الله بن عمرو والد جابر، وقال: يا قوم
أُذَكِّركُمُ الله ألا تخذلوا قومكم ونبيّكم،
{قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ)
فقال لهم: أَبْعَدَكُم الله، فسيغني الله عنكم نبيّه. ولما فعل ذلك عبد الله بن أُبَيّ، همَّت طائفتان من المؤمنين أن تفشلا: بنو حارثة من الأوس، وبنو سَلِمة من الخزرج، فعصمهما الله. وقد افترق المسلمون فرقتين فيما يفعلون بالمنخذلين، فقوم يقولون: نقاتلهم، وقوم يقولون: نتركهم،
فأنزل الله:
(فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ
أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)
هذا، ولما قُتل حَمَلةُ اللواء من المشركين، ولم يقدر أحدٌ على الدنو منه
ولَّوا الأدبار ونساؤهم يبكين ويُولولن،
وتبعهم المسلمون يجمعون الغنائم والأسلاب، فلما رأى ذلك الرماة الذين يحمون ظهور المسلمين فوق الجبل، قالوا: ما لنا في الوقوف من حاجة، ونسوا أمر السيد الحكيم ،
فذكرّهم رئيسهم به فلم يلتفتوا وانطلقوا ينتهبون.
أما رئيسُهم فثبت وثبت معه قليل منهم،
فلما رأى خالدُ بن الوليد أحدُ رؤساء المشركين خُلُوَّ الجبل من الرماة، انطلق ببعض الجيش، فقتل من ثبت من الرماة، وأتى المسلمين من ورائهم وهم مشتغلون بدنياهم، فلما رأوا ذلك البلاء دهشوا وتركوا ما بأيديهم، وانتقضتْ صفوفهم،
واختلطوا من غير شعار، حتى صار يضرب بعضُهم بعضاً،
ورفعت إحدى نساء المشركين اللواء فاجتمعوا حوله،
وكان من المشركين رجل يقال له ابن قَمِئَةَ قتل مُصعَب بن عمير صاحب اللواء،
وأشاع أن محمداً قد قتل،
فدخل الفشلُ في المسلمين حتى قال بعضُهم:
علامَ نقاتل إذا كان محمد قد قُتل؟ فارجعوا إلى قومكم يؤَمِّنُوكم
فقال: «إنّا لا نستعين بكافر على مشرك»
وأمر بردّهم لأنه لا يأمن جانبهم من حيث لهم اليد الطُولى في الخيانة. ثم استعرض الجيش فردَّ من استصغر، وكان فيمن ردّ: رافع بن خديج، وسَمُرَة بن جُندب، ثم أجاز رافعاً لما قيل له إنه رامٍ، فبكى سَمُرة، وقال لزوج أمه أجاز رسول الله رافعاً وردّني مع أني أصرعه فبلغ رسول الله الخبر فأمرهما بالمصارعة فكان الغالب سمرة، فأجازه. ثم بات عليه الصلاة والسلام محله ليلة السبت، واستعمل على حرس الجيش محمد بن مسلمة، وعلى حرسه الخاص ذكوان بن عبد قيس. وفي السَّحَر سار الجيش حتى إذا كان بالشَّوْطِ وهو بستان بين أُحُد والمدينة رجع عبد الله بن أُبَيَ بثلاثمائة من أصحابه وقال: عصاني وأطاع الوِلْدان فعلام نقتل أنفسنا؟
فتبعهم عبد الله بن عمرو والد جابر، وقال: يا قوم
أُذَكِّركُمُ الله ألا تخذلوا قومكم ونبيّكم،
{قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ)
فقال لهم: أَبْعَدَكُم الله، فسيغني الله عنكم نبيّه. ولما فعل ذلك عبد الله بن أُبَيّ، همَّت طائفتان من المؤمنين أن تفشلا: بنو حارثة من الأوس، وبنو سَلِمة من الخزرج، فعصمهما الله. وقد افترق المسلمون فرقتين فيما يفعلون بالمنخذلين، فقوم يقولون: نقاتلهم، وقوم يقولون: نتركهم،
فأنزل الله:
(فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ
أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)
هذا، ولما قُتل حَمَلةُ اللواء من المشركين، ولم يقدر أحدٌ على الدنو منه
ولَّوا الأدبار ونساؤهم يبكين ويُولولن،
وتبعهم المسلمون يجمعون الغنائم والأسلاب، فلما رأى ذلك الرماة الذين يحمون ظهور المسلمين فوق الجبل، قالوا: ما لنا في الوقوف من حاجة، ونسوا أمر السيد الحكيم ،
فذكرّهم رئيسهم به فلم يلتفتوا وانطلقوا ينتهبون.
أما رئيسُهم فثبت وثبت معه قليل منهم،
فلما رأى خالدُ بن الوليد أحدُ رؤساء المشركين خُلُوَّ الجبل من الرماة، انطلق ببعض الجيش، فقتل من ثبت من الرماة، وأتى المسلمين من ورائهم وهم مشتغلون بدنياهم، فلما رأوا ذلك البلاء دهشوا وتركوا ما بأيديهم، وانتقضتْ صفوفهم،
واختلطوا من غير شعار، حتى صار يضرب بعضُهم بعضاً،
ورفعت إحدى نساء المشركين اللواء فاجتمعوا حوله،
وكان من المشركين رجل يقال له ابن قَمِئَةَ قتل مُصعَب بن عمير صاحب اللواء،
وأشاع أن محمداً قد قتل،
فدخل الفشلُ في المسلمين حتى قال بعضُهم:
علامَ نقاتل إذا كان محمد قد قُتل؟ فارجعوا إلى قومكم يؤَمِّنُوكم
وقال جماعة: إذا كان محمد قد قُتل فقاتلوا عن دينكم.
وكان من نتيجة هذا الفشل أن انهزم جماعةٌ من المسلمين،
من بينهم: الوليد بن عقبة، وخارجة بن زيد، ورِفاعة بن المعلى،
وعثمان بن عفان، وتوجهوا إلى المدينة،
ولكنهم استحيوا أن يدخلوها، فرجعوا بعد ثلاث.
وكان من نتيجة هذا الفشل أن انهزم جماعةٌ من المسلمين،
من بينهم: الوليد بن عقبة، وخارجة بن زيد، ورِفاعة بن المعلى،
وعثمان بن عفان، وتوجهوا إلى المدينة،
ولكنهم استحيوا أن يدخلوها، فرجعوا بعد ثلاث.
وثبت رسول الله ، ومعه جماعة، منهم أبو طلحة الأنصاري استمر
بين يديه يمنع عنه بحَجَفَتِهِ، وكان رامياً شديد الرمي.
فنثر كِنانته بين يدي رسول الله ، وصار يقول: نفسي لنفسك الفداء
ووجهي لوجهك الوقَاء.
وكل من كان يمر ومعه كنانة
يقول له عليه الصلاة والسلام:
«انثرها لأبي طلحة»،
وكان ينظر إلى القوم ليرى مواضع النبل، فيقول له أبو طلحة:
يا نبي الله بأبي أنت وأمي،
لا تنظر يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك.
بين يديه يمنع عنه بحَجَفَتِهِ، وكان رامياً شديد الرمي.
فنثر كِنانته بين يدي رسول الله ، وصار يقول: نفسي لنفسك الفداء
ووجهي لوجهك الوقَاء.
وكل من كان يمر ومعه كنانة
يقول له عليه الصلاة والسلام:
«انثرها لأبي طلحة»،
وكان ينظر إلى القوم ليرى مواضع النبل، فيقول له أبو طلحة:
يا نبي الله بأبي أنت وأمي،
لا تنظر يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك.
ومنهم سهل بن حُنَيف وكان من مشاهير الرماة
نضحَ عن رسول الله بالنبل حتى انفرج عنه الناس.
نضحَ عن رسول الله بالنبل حتى انفرج عنه الناس.
ومنهم أبو دُجانة سِمَاكُ بن خَرَشَة الأنصاري تترس على رسول الله ،
فصار النبلُ يقع على ظهره وهو منحنٍ حتى كثر فيه.
فصار النبلُ يقع على ظهره وهو منحنٍ حتى كثر فيه.
وكان يقاتل عن الرسول زياد بن عمارة حتى أصابت الجراحُ مقاتله،
فأمر به فأُدني منه ووسده قدمه حتى مات.
فأمر به فأُدني منه ووسده قدمه حتى مات.
وقد أصابه عليه الصلاة والسلام شدائد عظيمة تحمَّلها بما أعطاه الله من الثبات،
فقد أقبل أُبيُّبن خلف يريد قتله فأخذ عليه الصلاة والسلام الحربة ممّن كانوا معه،
وقال: «خلّوا طريقه»،
فلمّا قَرُب منه ضربه ضربةً كانت سببَ هلاكه وهو راجع،
ولم يقتل رسول الله غيره لا في هذه الغزوة ولا في غيرها.
وكان أبو عامر الراهب قد حفر حُفراً وغطّاها ليقَع فيها المسلمون
فوقعَ الرسول في حفرة منها فأُغمي عليه وخُدشت ركبتاه،
فأخذ عليّ بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله
وهما ممّن ثبت حتى استوى قائماً
فرماه عتبة بن أبي وقاص بحجر كسر رباعيته
فتبعه حاطب بن أبي بلتعة فقتله
وشَجَّ وجهه عليه الصلاة والسلام عبد الله بن شهاب الزهري
وجرحت وجنتاه بسبب دخول حلقتي المغفر فيهما من ضربة
ضربه بها ابن قَمِئَةَ غضب الله عليه،
فجاء أبو عبيدة وعالج لحلقتين حتى نزعهما،
فكُسرت في ذلك ثنيتاه،
وقال حينئذٍ عليه الصلاة والسلام:
كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيّهم
فأنزل الله:
(لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)
فقد أقبل أُبيُّبن خلف يريد قتله فأخذ عليه الصلاة والسلام الحربة ممّن كانوا معه،
وقال: «خلّوا طريقه»،
فلمّا قَرُب منه ضربه ضربةً كانت سببَ هلاكه وهو راجع،
ولم يقتل رسول الله غيره لا في هذه الغزوة ولا في غيرها.
وكان أبو عامر الراهب قد حفر حُفراً وغطّاها ليقَع فيها المسلمون
فوقعَ الرسول في حفرة منها فأُغمي عليه وخُدشت ركبتاه،
فأخذ عليّ بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله
وهما ممّن ثبت حتى استوى قائماً
فرماه عتبة بن أبي وقاص بحجر كسر رباعيته
فتبعه حاطب بن أبي بلتعة فقتله
وشَجَّ وجهه عليه الصلاة والسلام عبد الله بن شهاب الزهري
وجرحت وجنتاه بسبب دخول حلقتي المغفر فيهما من ضربة
ضربه بها ابن قَمِئَةَ غضب الله عليه،
فجاء أبو عبيدة وعالج لحلقتين حتى نزعهما،
فكُسرت في ذلك ثنيتاه،
وقال حينئذٍ عليه الصلاة والسلام:
كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيّهم
فأنزل الله:
(لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)
وقد أصاب المسلمين الذين كانوا يحوطون رسول الله كثير من الجراحات،
لأن الشخص منهم كان يتلقى السهم، خوفاً أن يصل للرسول ،
فوجد بطلحة نيفٌ وسبعون جراحة، وشلَّت يده،
وأصاب كعب بن مالك سبع عشرة جراحة.
لأن الشخص منهم كان يتلقى السهم، خوفاً أن يصل للرسول ،
فوجد بطلحة نيفٌ وسبعون جراحة، وشلَّت يده،
وأصاب كعب بن مالك سبع عشرة جراحة.
وهذا الذي ابتلي به المسلمون درس مهم لهم،
يذكِّرهم بأمرين عظيمين تركهما المسلمون فأُصيبوا.
يذكِّرهم بأمرين عظيمين تركهما المسلمون فأُصيبوا.
أولهما: طاعة الرسول في أمره،
فقد قال للرماة:
لا تبرحوا مكانكم إن نحن نُصرنا أو قُهرنا، فعصوا أمره ونزلوا.
فقد قال للرماة:
لا تبرحوا مكانكم إن نحن نُصرنا أو قُهرنا، فعصوا أمره ونزلوا.
والثاني:
أن تكون الأعمال كلها لله غير منظورة فيها لهذه الدنيا التي كثيراً ما تكون سبباً في مصائب عظيمة، وهؤلاء أرادوا عَرض الدنيا، والتهَوا بالغنائم حتى عُوقبوا،
وفي ذلك أنزل الله:
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ
وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا
وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ
وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)
أن تكون الأعمال كلها لله غير منظورة فيها لهذه الدنيا التي كثيراً ما تكون سبباً في مصائب عظيمة، وهؤلاء أرادوا عَرض الدنيا، والتهَوا بالغنائم حتى عُوقبوا،
وفي ذلك أنزل الله:
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ
وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا
وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ
وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)
غزوة حمراء الأسد
لما رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أصبح حَذِراً من رجوع المشركين إلى المدينة ليتمموا انتصارهم، فنادى في أصحابه بالخروج خلف العدو وألاّ يخرج إلا من كان معه بالأمس فاستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القَرح، فضمَّدوا جراحاتهم وخرجوا في السادس عشر من شوال واللواء معقود لم يُحَلَّ، فأعطاه علي بن أبي طالب، وولى على المدينة ابن أم مكتوم، ثم سار الجيش حتى وصلوا حمراء الأسد وقد كان ما ظنه الرسول حقاً، فإن المشركين تلاوموا على ترك المسلمين من غير شن الغارة على المدينة حتى يتم لهم النصر، فأصرّوا على الرجوع، ولكن لما بلغهم خروج الرسول r في أثرهم ظنوا أنه قد حضر معه مَنْ لم يحضر بالأمس، وألقى الله الرعب في قلوبهم، فتمادوا في سيرهم إلى مكة.
وظفر عليه الصلاة والسلام وهم في حمراء الأسد بأبي عزة الشاعر، الذي مَنَّ عليه ببدر بعد أن تعهد ألاّ يكون على المسلمين،
فأمر بقتله، فقال: يا محمد أقلْني، وامنُن عليّ، ودعني لبناتي،
وأعطيك عهداً ألاّ أعود لمثل ما فعلت،
فقال عليه الصلاة والسلام:
«لا والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول: خدعتُ محمداً مرتين،
لا يُلْدَغُ المؤمنُ من جُحْرٍ مرتين، اضرب عنقه يا زبير»
فضرب عنقه.
فأمر بقتله، فقال: يا محمد أقلْني، وامنُن عليّ، ودعني لبناتي،
وأعطيك عهداً ألاّ أعود لمثل ما فعلت،
فقال عليه الصلاة والسلام:
«لا والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول: خدعتُ محمداً مرتين،
لا يُلْدَغُ المؤمنُ من جُحْرٍ مرتين، اضرب عنقه يا زبير»
فضرب عنقه.
وفي هذا تأديب عظيم من صاحب الشرع الشريف،
فإن الرجل الذي لا يحترز مما أُصيب منه ليس بعاقل،
فلا بدّ من الحزم لإقامة دعائم المُلْك.
حوادث
فإن الرجل الذي لا يحترز مما أُصيب منه ليس بعاقل،
فلا بدّ من الحزم لإقامة دعائم المُلْك.
حوادث
وفي هذه السنة زوَّج عليه الصلاة والسلام بنته أُم كلثوم لعثمان بن عفان
بعد أن ماتت رقية عنده، ولذلك كان يُسَمَّى ذا النورين.
بعد أن ماتت رقية عنده، ولذلك كان يُسَمَّى ذا النورين.
وفيها تزوَّج عليه الصلاة والسلام حفصة بنت عمر بن الخطاب،
وأُمُّها أخت عثمان بن مظعون، وكانت قبله تحت خُنيس بن حذافة السهمي ،
فتوفي عنها بجراحة أصابته ببدر.
وفيها تزوج عليه الصلاة والسلام زينبَ بنت خزيمة الهلالية من بني هلال بن عامر، كانت تدعى في الجاهلية أُم المساكين لرأفتها وإحسانها إليهم، وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش، فقُتل عنها بأُحُد وهي أخت ميمونة بنت الحارث لأمها. وفيها ولد الحسن بن علي
وأُمُّها أخت عثمان بن مظعون، وكانت قبله تحت خُنيس بن حذافة السهمي ،
فتوفي عنها بجراحة أصابته ببدر.
وفيها تزوج عليه الصلاة والسلام زينبَ بنت خزيمة الهلالية من بني هلال بن عامر، كانت تدعى في الجاهلية أُم المساكين لرأفتها وإحسانها إليهم، وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش، فقُتل عنها بأُحُد وهي أخت ميمونة بنت الحارث لأمها. وفيها ولد الحسن بن علي
السَّنة الرَّابعة : سرية أبي سلمة إلى بني أسد في قطن
في بدء السنة الرابعة بلغ رسول الله أن طُليحة وسلمة ابني خويلد الأسديين يدعوان قومهما بني أسد لحربه عليه الصلاة والسلام فدعا أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي وعقد له لواءً وقال له سِرْ حتى تنزل أرض بني أسد بن خزيمة فَأَغِرْ عليهم وأرسل معه رجالاً، فسار في هلال المحرم حتى بلغ قَطَناً فأغار عليهم فهربوا من منازلهم ووجد أبو سلمة إبلاً وشاءً فأخذها ولم يلق حرباً ورجع بعد عشرة أيام من خروجه.
في بدء السنة الرابعة بلغ رسول الله أن طُليحة وسلمة ابني خويلد الأسديين يدعوان قومهما بني أسد لحربه عليه الصلاة والسلام فدعا أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي وعقد له لواءً وقال له سِرْ حتى تنزل أرض بني أسد بن خزيمة فَأَغِرْ عليهم وأرسل معه رجالاً، فسار في هلال المحرم حتى بلغ قَطَناً فأغار عليهم فهربوا من منازلهم ووجد أبو سلمة إبلاً وشاءً فأخذها ولم يلق حرباً ورجع بعد عشرة أيام من خروجه.
سرية عبد الله بن أنيس إلى عرنة
وفي بدئها أيضاً بلغه عليه الصلاة والسلام أن سفيان بن خالد بن نُبَيْح الهُذلي المقيم بعُرَنَة يجمع الجموعَ لحربه فأرسل له عبد الله بن أُنَيْس الجهني وحده ليقتله فاستأذن رسول الله rأن يَتَقَوَّلَ حتى يتمكن فأذن له وقال انتسب لخزاعة فخرج لخمس خَلَون من المحرم ولما وصل إليه قال له سفيان ممّن الرجل قال من خُزاعة، سمعتُ بجمعك لمحمد فجئت لأكون معك فقال له أجل إني لفي الجمع له فمشى عبد الله معه وحدَّثه وسفيان يستحلي حديثه فلما انتهى إلى خِبائه تفرق الناس عنه فجلس معه عبد الله حتى نام فقام
وقتله ثم ارتحل حتى أتى المدينة ولم يلحقه الطلب.
وقتله ثم ارتحل حتى أتى المدينة ولم يلحقه الطلب.
سرية الرجيع
وفي صَفَر أرسل عليه الصلاة والسلام عشرة رجال عيوناً على قريش مع رهط عَضَل والقَارَةِ الذين جاؤوا رسول الله يطلبون من يفقِّههم في الدين وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري فخرجوا يسيرون الليل ويكمنون النهار حتى إذا كانوا بالرَّجيع غدر بهم أولئك الرهط ودلُّوا عليهم هذيلاً قوم سفيان بن خالد
الهذلي الذي كان قتله عبد الله بن أنيس فنفروا إليهم فيما يقرب من مائتي رامٍ واقتفوا آثارهم حتى قربوا منهم فلما أحسَّ بهم رجال السرية لجؤوا إلى جبل هناك فقال لهم الأعداء انزلوا ولكم العهد ألاّ نقتلكم ولما رأى الثلاثة الذين سلَّموا عينَ الغدر امتنع أحدهم فقتلوه وأما الاثنان فباعوهما بمكة ممّن كان له ثأر عند المسلمين وهناك قُتِلا وقد قال أحدهما وهو خُبيب بن عدي حين أرادوا قتله وَلَسْتُ أُبالي حينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً على أَيِّ جَنْبٍ كان في الله مَصْرَعي وذلكَ في ذاتِ الإلهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَاركْ على أَوصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
سرية بئر معونة
سرية بئر معونة
وفي صَفَر وفد على رسول الله أبو براء عامر بن مالك مُلاعِبُ الأسنّة وهو من رؤوس بني عامر فدعاه عليه الصلاة والسلام إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد بل قال: إني أرى أمرك هذا حسناً شريفاً ولو بعثتَ معي رجالاً من أصحابك إلى أهل
نجد فدعوهم إلى أمرك، رجوتُ أن يستجيبوا لك،
فقال عليه الصلاة والسلام: إني أخشى عليهم أهل نجد.
فقال أبو براء عامر: أنا لهم جار فأرسل معه المنذر بن عمرو في سبعين
من أصحابه كانوا يُسَمَّون القرَّاء لكثرة ما كانوا يحفظون من القرآن،
فساروا حتى نزلوا بئر معونة، فبعثوا حَرَام بن مِلحان بكتاب إلى عامر بن الطفيل سيدِ بني عامر، فلما وصل إليه لم يلتفت إلى الكتاب بل عدا على حَرَام فقتله، ثم استصرخ على بقية البعثة أصحابه من بني عامر فلم يرضوا أن يخفروا جوار ملاعب الأسنة، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سُليم، وهم رِعْلٌ وذَكوان وعُصَيَّة
فأجابوا وذهبوا معه حتى إذا التقوا بالقرَّاء أحاطوا بهم وقاتلوهم حتى قتلوهم عن آخرهم بعد دفاع شديد لم يُجْدِهم نفعاً لقلّة عددهم وكثرة عدوهم ولم ينجُ إلا كعب بن زيد وقع بين القتلى حتى ظُنَّ أنه منهم وعمرو بن أمية كان في سَرْح القوم
فقال عليه الصلاة والسلام: إني أخشى عليهم أهل نجد.
فقال أبو براء عامر: أنا لهم جار فأرسل معه المنذر بن عمرو في سبعين
من أصحابه كانوا يُسَمَّون القرَّاء لكثرة ما كانوا يحفظون من القرآن،
فساروا حتى نزلوا بئر معونة، فبعثوا حَرَام بن مِلحان بكتاب إلى عامر بن الطفيل سيدِ بني عامر، فلما وصل إليه لم يلتفت إلى الكتاب بل عدا على حَرَام فقتله، ثم استصرخ على بقية البعثة أصحابه من بني عامر فلم يرضوا أن يخفروا جوار ملاعب الأسنة، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سُليم، وهم رِعْلٌ وذَكوان وعُصَيَّة
فأجابوا وذهبوا معه حتى إذا التقوا بالقرَّاء أحاطوا بهم وقاتلوهم حتى قتلوهم عن آخرهم بعد دفاع شديد لم يُجْدِهم نفعاً لقلّة عددهم وكثرة عدوهم ولم ينجُ إلا كعب بن زيد وقع بين القتلى حتى ظُنَّ أنه منهم وعمرو بن أمية كان في سَرْح القوم
وَأُبْلِغَ عليه الصلاة والسلام خبر القراء فخطب في أصحابه،
وكان فيما قال:
وكان فيما قال:
«إن إخوانكم قد لقوا المشركين وقتلوهم، وإنهم قالوا:
ربنا بلِّغ قومنا أنّا قد لقينا ربنا فرضينا عنه ورضي عنّا»،
وكان وصول خبر هذه السرية وسرية الرجيع في يوم واحد،
فحزن عليهم حزناً شديداً، وأقام يدعو على الغادرين بهم شهراً في الصلاة.
غزوة بني النَّضِير
ربنا بلِّغ قومنا أنّا قد لقينا ربنا فرضينا عنه ورضي عنّا»،
وكان وصول خبر هذه السرية وسرية الرجيع في يوم واحد،
فحزن عليهم حزناً شديداً، وأقام يدعو على الغادرين بهم شهراً في الصلاة.
غزوة بني النَّضِير
يا لله، ما أسوأ عاقبة الطيش فقد تكون الأمة مرتاحة البال، هادئة الخواطر،
حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر، يظنون من ورائه النجاح،
فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم.
حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر، يظنون من ورائه النجاح،
فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم.
وهذا ما حصل ليهود بني النضير حلفاء الخزرج، الذين كانوا يجاورون المدينة،
فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كلٌّ منهم الآخر،
ولكن بنو النضير لم يوفوا بهذه العهود حسداًمنهم وبغياً.
فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كلٌّ منهم الآخر،
ولكن بنو النضير لم يوفوا بهذه العهود حسداًمنهم وبغياً.
فبينما رسول الله وبعض من أصحابه في ديار بني النضير إذ ائتمر جماعة منهم على قتله بأن يأخذ واحدٌ منهم صخرةً ويلقيها عليه من علو، فأُطلع عليه الصلاة والسلام على قصدهم، فرجع وتبعه أصحابه، ثم أرسل لهم محمد بن مسلمة يقول لهم: اخرجوا من بلادي فقد هممتم بما هممتم من الغدر. إذ الحزم كل الحزم ألا يتهاون الإنسان مع مَنْ عُرف منه الغدر.
فأرسل لهم إخوانهم المنافقون يقولو:
لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم
(لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً
وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ
وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ)
لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم
(لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً
وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ
وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ)
ولكن اليهود طمعوا بهذا الوعد وتأخروا هن الجلاء فأمر عليه الصلاة والسلام بالتهيؤ لقتالهم فلما اجتمع الناس خرج بهم في شهر ربيع الأول واستعمل على ابن مكتوم وأعطى رايته عليا.
ولما سار اليهود نزل بعضهم بخيبر ومنهم أكابرهم حُيَيُّ بن أخطب وسلاّم بن أبي الحُقَيْق ومنهم من سار إلى أَذْرعَات بالشام وأسلم منهم اثنان يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب
غزوة ذات الرقاع
الهذلي الذي كان قتله عبد الله بن أنيس فنفروا إليهم فيما يقرب من مائتي رامٍ واقتفوا آثارهم حتى قربوا منهم فلما أحسَّ بهم رجال السرية لجؤوا إلى جبل هناك فقال لهم الأعداء انزلوا ولكم العهد ألاّ نقتلكم ولما رأى الثلاثة الذين سلَّموا عينَ الغدر امتنع أحدهم فقتلوه وأما الاثنان فباعوهما بمكة ممّن كان له ثأر عند المسلمين وهناك قُتِلا وقد قال أحدهما وهو خُبيب بن عدي حين أرادوا قتله وَلَسْتُ أُبالي حينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً على أَيِّ جَنْبٍ كان في الله مَصْرَعي وذلكَ في ذاتِ الإلهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَاركْ على أَوصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
سرية بئر معونة
وفي صَفَر وفد على رسول الله أبو براء عامر بن مالك مُلاعِبُ الأسنّة وهو من رؤوس بني عامر فدعاه عليه الصلاة والسلام إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد بل قال: إني أرى أمرك هذا حسناً شريفاً ولو بعثتَ معي رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، رجوتُ أن يستجيبوا لك، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أخشى عليهم أهل نجد. فقال أبو براء عامر: أنا لهم جار فأرسل معه المنذر بن عمرو في سبعين من أصحابه كانوا يُسَمَّون القرَّاء لكثرة ما كانوا يحفظون من القرآن، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، فبعثوا حَرَام بن مِلحان بكتاب إلى عامر بن الطفيل سيدِ بني عامر، فلما وصل إليه لم يلتفت إلى الكتاب بل عدا على حَرَام فقتله، ثم استصرخ على بقية البعثة أصحابه من بني عامر فلم يرضوا أن يخفروا جوار ملاعب الأسنة، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سُليم، وهم رِعْلٌ وذَكوان وعُصَيَّة فأجابوا وذهبوا معه حتى إذا التقوا بالقرَّاء أحاطوا بهم وقاتلوهم حتى قتلوهم عن آخرهم بعد دفاع شديد لم يُجْدِهم نفعاً لقلّة عددهم وكثرة عدوهم ولم ينجُ إلا كعب بن زيد وقع بين القتلى حتى ظُنَّ أنه منهم وعمرو بن أمية كان في سَرْح القوم
وَأُبْلِغَ عليه الصلاة والسلام خبر القراء فخطب في أصحابه، وكان فيما قال: «إن إخوانكم قد لقوا المشركين وقتلوهم، وإنهم قالوا: ربنا بلِّغ قومنا أنّا قد لقينا ربنا فرضينا عنه ورضي عنّا»، وكان وصول خبر هذه السرية وسرية الرجيع في يوم واحد، فحزن عليهم r حزناً شديداً، وأقام يدعو على الغادرين بهم شهراً في الصلاة.
غزوة بني النَّضِير
يا لله، ما أسوأ عاقبة الطيش فقد تكون الأمة مرتاحة البال، هادئة الخواطر، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر، يظنون من ورائه النجاح، فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم.
وهذا ما حصل ليهود بني النضير حلفاء الخزرج، الذين كانوا يجاورون المدينة، فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كلٌّ منهم الآخر، ولكن بنو النضير لم يوفوا بهذه العهود حسداًمنهم وبغياً.
فبينما رسول الله وبعض من أصحابه في ديار بني النضير إذ ائتمر جماعة منهم على قتله بأن يأخذ واحدٌ منهم صخرةً ويلقيها عليه من علو، فأُطلع عليه الصلاة والسلام على قصدهم، فرجع وتبعه أصحابه، ثم أرسل لهم محمد بن مسلمة يقول لهم: اخرجوا من بلادي فقد هممتم بما هممتم من الغدر. إذ الحزم كل الحزم ألا يتهاون الإنسان مع مَنْ عُرف منه الغدر.
فأرسل لهم إخوانهم المنافقون يقولو:
لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم
(لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً
وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ
وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ)
ولكن اليهود طمعوا بهذا الوعد وتأخروا هن الجلاء فأمر عليه الصلاة والسلام بالتهيؤ لقتالهم فلما اجتمع الناس خرج بهم في شهر ربيع الأول
واستعمل على ابن مكتوم وأعطى رايته عليا.
ولما سار اليهود نزل بعضهم بخيبر ومنهم أكابرهم حُيَيُّ بن أخطب وسلاّم بن أبي الحُقَيْق ومنهم من سار إلى أَذْرعَات بالشام وأسلم منهم اثنان يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب
غزوة ذات الرقاع
سرية بئر معونة
وفي صَفَر وفد على رسول الله أبو براء عامر بن مالك مُلاعِبُ الأسنّة وهو من رؤوس بني عامر فدعاه عليه الصلاة والسلام إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد بل قال: إني أرى أمرك هذا حسناً شريفاً ولو بعثتَ معي رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، رجوتُ أن يستجيبوا لك، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أخشى عليهم أهل نجد. فقال أبو براء عامر: أنا لهم جار فأرسل معه المنذر بن عمرو في سبعين من أصحابه كانوا يُسَمَّون القرَّاء لكثرة ما كانوا يحفظون من القرآن، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، فبعثوا حَرَام بن مِلحان بكتاب إلى عامر بن الطفيل سيدِ بني عامر، فلما وصل إليه لم يلتفت إلى الكتاب بل عدا على حَرَام فقتله، ثم استصرخ على بقية البعثة أصحابه من بني عامر فلم يرضوا أن يخفروا جوار ملاعب الأسنة، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سُليم، وهم رِعْلٌ وذَكوان وعُصَيَّة فأجابوا وذهبوا معه حتى إذا التقوا بالقرَّاء أحاطوا بهم وقاتلوهم حتى قتلوهم عن آخرهم بعد دفاع شديد لم يُجْدِهم نفعاً لقلّة عددهم وكثرة عدوهم ولم ينجُ إلا كعب بن زيد وقع بين القتلى حتى ظُنَّ أنه منهم وعمرو بن أمية كان في سَرْح القوم
وَأُبْلِغَ عليه الصلاة والسلام خبر القراء فخطب في أصحابه، وكان فيما قال: «إن إخوانكم قد لقوا المشركين وقتلوهم، وإنهم قالوا: ربنا بلِّغ قومنا أنّا قد لقينا ربنا فرضينا عنه ورضي عنّا»، وكان وصول خبر هذه السرية وسرية الرجيع في يوم واحد، فحزن عليهم r حزناً شديداً، وأقام يدعو على الغادرين بهم شهراً في الصلاة.
غزوة بني النَّضِير
يا لله، ما أسوأ عاقبة الطيش فقد تكون الأمة مرتاحة البال، هادئة الخواطر، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر، يظنون من ورائه النجاح، فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم.
وهذا ما حصل ليهود بني النضير حلفاء الخزرج، الذين كانوا يجاورون المدينة، فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كلٌّ منهم الآخر، ولكن بنو النضير لم يوفوا بهذه العهود حسداًمنهم وبغياً.
فبينما رسول الله وبعض من أصحابه في ديار بني النضير إذ ائتمر جماعة منهم على قتله بأن يأخذ واحدٌ منهم صخرةً ويلقيها عليه من علو، فأُطلع عليه الصلاة والسلام على قصدهم، فرجع وتبعه أصحابه، ثم أرسل لهم محمد بن مسلمة يقول لهم: اخرجوا من بلادي فقد هممتم بما هممتم من الغدر. إذ الحزم كل الحزم ألا يتهاون الإنسان مع مَنْ عُرف منه الغدر.
فأرسل لهم إخوانهم المنافقون يقولو:
لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم
(لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً
وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ
وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ)
ولكن اليهود طمعوا بهذا الوعد وتأخروا هن الجلاء فأمر عليه الصلاة والسلام بالتهيؤ لقتالهم فلما اجتمع الناس خرج بهم في شهر ربيع الأول
واستعمل على ابن مكتوم وأعطى رايته عليا.
ولما سار اليهود نزل بعضهم بخيبر ومنهم أكابرهم حُيَيُّ بن أخطب وسلاّم بن أبي الحُقَيْق ومنهم من سار إلى أَذْرعَات بالشام وأسلم منهم اثنان يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب
غزوة ذات الرقاع
يتبع
رد: سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام
غزوة ذات الرقاع
في ربيع الآخر بلغه عليه الصلاة والسلام أن قبائل من نجد يتهيؤون لحربه وهم بنو محارب وبنو ثعلبة فتجهَّز لهم وخرج في سبعمائة مقاتل وولّى على المدينة عثمان بن عفان ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا ديار القوم فلم يجدوا فيها أحداً غير نسوة فأخذهنّ فبلغ الخبر رجالهم فخافوا وتفرقوا في رؤوس الجبال ثم اجتمع جمع منهم وجاؤوا للحرب فتقارب الناسُ وأخافَ بعضهم بعضاً ولما حانت صلاة العصر وخاف عليه الصلاة والسلام أن يغدر بهم الأعداء وهم يصلّون صلى بالمسلمين صلاة الخوف فألقى الله الرعب في قلوب الأعداء وتفرقت جموعهم خائفين منه .
غزوة بدر الآخرة
لما أهلّ شعبانُ هذا العام كان موعد أبي سفيان فإنه بعد انقضاء غزوة أُحُد قال للمسلمين موعدنا بدر العام المقبل فأجابه الرسول إلى ذلك وكان بدر محل سوق تُعقد كل عام للتجارة في شعبان فلما حَلَّ الأجلُ وقريش مُجدبون لم يتمكن
أبو سفيان من الإيفاء بوعده فأراد أن يخذل المسلمين عن الخروج كيلا يُوسم بخلف الوعد فاستأجر نُعيم بن مسعود الأشجعي ليأتي المدينة ويُرجفَ بما جمعه أبو سفيان من الجموع العظيمة فقدم نُعيم المدينة وقال
(إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
ولم يلتفت عليه الصلاة والسلام لهذا الإرجاف اتِّكالاً على ربه بل خرج بألف وخمسمائة من أصحابه واستخلف على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أُبَيَ ولم يزالوا سائرين حتى أتوا بدراً فلم يجدوا بها أحداً لأن أبا سفيان أشار على قريش بالخروج على نيّة الرجوع بعد مسير ليلة أو ليلتين ظانّاً أن إرجاف نُعيم يفيد فيكون المخلف هم المسلمون فقال لقومه إن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام عشب فارجعوا.
حوادث
وفي هذا العام ولد الحسين بن علي وفيه توفيت زينب بنت خزيمة أُم المؤمنين وفيه توفي أبو سَلَمة ابن عمة رسول الله وأخوه من الرضاعة وأولُ من هاجر إلى المدينة وقلبها هاجر إلى الحبشة وفيه تزوج عليه الصلاة والسلام أُمَّ سَلَمَةَ هنداً زوج أبي سلمة بعد وفاته وفيه توفي عبد الله بن عثمان وهو من السيدة رقية وكان ابن ست سنين وتوفي أيضا عامر بن فهيرة.
السَّنة الخامِسَة : غزوة دومة الجندل
وفي ربيع الأول من هذا العام بلغ النبي أن جمعاً من الأعراب بدُومة الجندل يظلمون من مَرَّ بهم، وأنهم يريدون الدنو من المدينة فتجهز لغزوهم، وخرج في ألف من أصحابه، بعد أن وَلَّى على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطة الغِفاري، ولم يزل يسير الليل ويكمُن النهار حتى قرب منهم، فلما بلغهم الخبر تفرقوا، فهجم المسلمون على ماشيتهم ورعائهم، فأُصيب مَنْ أُصيبَ، وهرب من هرب، ثم نزل بساحتهم فلم يلقَ أحداً، وبثّ السرايا فلم يجد منهم أحداً، فرجع عليه الصلاة والسلام غانماً، وصالح وهو عائد عيينةَ بن حِصْنٍ الفَزاري، وهو الذي كان يسمّيه عليه الصلاة والسلام الأحمق المطاع، لأنه كان يتبعه ألف قَنَاة، وأقطعه عليه الصلاة والسلام أرضاً يرعى فيها بهمه على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة لأن أرضه كانت قد أجدبت.
غزوة بن المُصْطَلِق
في شعبان، بلغه عليه الصلاة والسلام أن الحارث بن أبي ضرار سيدَ بني المصطلق الذين ساعدوا قريشاً على حرب المسلمين في أُحُد يجمع الجموع لحربه فخرج له عليه الصلاة والسلام في جمع كثير وولَّى على المدينة زيدَ بن
حارثة وخرج معه من نسائه عائشةُ وأُم سلمة. وخرج معه ناس من المنافقين لم يخرجوا قطُّ في غزوة مثلها يرجون أن يصيبوا من عَرَضِ الدنيا وفي أثناء مسيره عليه الصلاة والسلام التقى بعَيْنِ بني المصطلق فسأله عن أحوال العدو فلم يجبْ فأمر بقتله ولما بلغ الحارث رئيس الجيش مجيء المسلمين لحربه وأنهم قتلوا جاسوسه خاف هو وجيشه خوفاً شدياً حتى تفرق عنه بعضهم ولما وصل المسلمون إلى الْمُرَيْسِيع تَصَافَّ الفريقان للقتال بعد أن عرض عليهم الإسلام فلم يقبلوا فتراموا بالنبل ساعة، ثم حمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد فلم يتركوا لرجل من عدوهم مجالاً للهرب بل قتلوا عشرة منهم وأسروا باقيهم مع النساء والذرية واستاقوا الإبل والشياه وكانت الإبل ألفي بعير والشياه خمسة آلاف، واستعمل الرسول على ضبطها مولاه شُقران، وعلى الأسرى بُرَيدة وكان في نساء المشركين بَرَّة بنت الحارث سيد القوم وقد أخذ من قومها مئتا بيتٍ أسرى وُزِّعَتْ على المسلمين وهنا يظهر حُسْن السياسة ومنتهى الكرم فإن بني المصطلق من أعزِّ العرب داراً فأسْرُ نسائهم بهذه الحال صعب جداً فأراد عليه الصلاة والسلام أن يجعل المسلمين يَمُنُّونَ على النساء بالحرية من تلقاء أنفسهم فتزوج برّة بنت الحارث التي سمّاها جُوَيْرِيَةَ فقال المسلمون أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم في أيدينا فمنّوا عليهم بالعتق فكانت جويريةُ أيمنَ امرأةٍ على قومها كما قالت عائشة y، وتسبَّب عن هذا الكرم العظيم وهذه المعاملة الجليلة أن أسلم بنو المصطلق عن بكرة أبيهم وكانوا للمسلمين بعد أن كانوا عليهم.
غزوة الخندق
لم يقرّ لعظماء بني النضير قرار بعد جلائهم عن ديارهم وإرث المسلمين لها، بل كان في نفوسهم دائماً أن يأخذوا ثأرهم ويستردّوا بلادهم فذهب جمع منهم إلى مكة، وقابلوا رؤساء قريش حرّضوهم على حرب رسول الله ومنّوهم المساعدة، فوجدوا منهم قبولاً لما طلبوه ثم جاؤوا إلى قبيلة غطفان وحرّضوا رجالها كذلك، وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب فوجدوا منهم ارتياحاً.
فتجهزت قريش وأتباعها يرأسهم أبو سفيان ويحمل لواءهم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري، وعددهم أربعة آلاف، معهم ثلاثمائة فرس، وألف وخمسمائة بعير. وتجهزت غطفان يرأسهم عُيَيْنَةُ بن حِصن الذي جازى إحسان رسول الله r كفراً، فإنه كما قدّمنا أقطعه أرضاً يرعى فيها سوائمه، حتى إذا سمن خفُّه وحافره، قام يقود الجيوش لحرب من أنعم عليه، وكان معه ألف فارس. وتجهزت بنو مرّة يرأسهم الحارث بن عوف المري وهم أربعمائة وتجهزت بنو أشجع يرأسهم أبو مسعود بن رُخَيلَةَ وتجهزت بنو سليم يرأسهم
سفيان بن عبد شمس وهم سبعمائة وتجهزت بنو أسد يرأسهم طليحة بن خويلد الأسدي وعدة الجميع عشرة آلاف محارب قائدهم العام أبو سفيان.
ولما بلغه عليه الصلاة والسلام أخبار هاتِه التجهيزات، استشار أصحابه فيما يصنع أيمكث بالمدينة أم يخرج للقاء هذا الجيش الجرّار فأشار عليه سلمان الفارسي بعمل الخندق وهو عمل لم تكن العرب تعرفه، فأمر عليه الصلاة والسلام المسلمين بعمله، وشرعوا في حفره شمالي المدينة من الحرّه الشرقية إلى الحرّة الغربية وهذه هي الجهة التي كانت عورة تُؤتى المدينة من قبلها. أما بقية حدودها فمشتبكة بالبيوت والنخيل، لا يتمكن العدو من الحرب جهتها.
وقد قاسى المسلمون صعوبات جسيمة في حفر الخندق، لأنهم لم يكونوا في سعة من العيش حتى يتيسر لهم العمل، وعمل معهم عليه الصلاة والسلام، فكان ينقل التراب متمثلاً بشعر ابن رواحة: اللهمَّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدَّقْنا ولا صلّينا فَأَنْزِلَنْ سكينةً علينا وثبِّتِ الأقدامَ إن لاقينا والمشركون قد بَغَوا علينا وإن أرادوا فتنةً أبينا وأقام الجيش في الجهة الشرقية مسنداً ظهره إلى سَلْع وهو جبل مطل على المدينة وعدّتهم ثلاثة آلاف، وكان لواء المهاجرين مع زيد بن حارثة، ولواء الأنصار مع سعد بن عبادة. أما قريش فنزلت بمَجْمع الأسيال، وأما غطفان فنزلت جهة أُحُد. وكان المشركون معجبين بمكيدة الخندق التي لم تكن العرب تعرفها، فصاروا يترامون مع المسلمين بالنبل. ولما طال المطال عليهم أكره جماعة منهم أفراسهم على اقتحام الخندق منهم عكرمة بن أبي جهل وعمرو بن عَبْدِ وَدَ وآخرون وقد برز علي بن أبي طالب t لعمرو بن عبد ود فقتله وهرب إخوانه، وهوى في الخندق نوفل بن عبد الله، فاندقت عنقه، ورُمي سعد بن معاذ t بسهم قطع أَكْحله، وهو شريان الذراع، واستمرت المناوشة والمراماة بالنبل يوماً كاملاً حتى فاتت المسلمين صلاة ذاك اليوم وقضوها بعد، وجعل عليه الصلاة والسلام على الخندق حُرَّاساً حتى لا يقتحمه المشركون بالليل، وكان يحرس بنفسه ثُلمة فيه مع شدة البرد، وكان عليه الصلاة والسلام يبشّر أصحابه بالنصر والظفر ويَعِدهم الخير.أما المنافقون فقد أظهروا في هذه الشدة ما تكنُّه ضمائرهم حتى قالوا:
(مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً)
وانسحبوا قائلين: إن بيوتنا عورة نخاف أن يُغير عليها العدو
(وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً)
واشتدت الحال بالمسلمين،
فإن هذا الحصار صاحَبَه ضيق على فقراء المدينة، والذي زاد الشدة عليهم ما بلغهم من أن يهود بني قريظة الذين يُساكنونهم في المدينة قد انتهزوا هذه الفرصة لنقض العهود، وسبب ذلك أن حُيَيَّ بن أَخْطَب سيد بني النضير المجلين توجه إلى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة، وكان له كالشيطان إذ قال للإنسان اكفر، فحسَّن له
نقض العهد، ولم يزل به حتى أجابه لقتال المسلمين.
ولما بلغت هذه الأخبار رسول الله أرسل مسلمة بن أسلم في مائتين،
وزيد بن حارثة في ثلاثمائةٍ لحراسة المدينة، خوفاً على النساء والذراري،
وأرسل الزبير بن العوّام يستجلي له الخبر فلما وصلهم
وجدهم حانقين يظهر على وجوههم الشر ونالوا من رسول الله
والمسلمين أمامه، فرجع وأخبر الرسول بذلك. وهناك اشتد
وَجَلُ المسلمين وزلزلوا زلزالاً شديداً، لأن العدو جاءهم من فوقهم
ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر
وظنوا بالله الظنون، وتكلم المنافقون بما بَدا لهم،
فأراد عليه الصلاة والسلام أن يرسل لعُيَيْنَة َبن حِصْنٍ،
ويصالحه على ثلث ثمار المدينة لينسحب بغطفان،
فأبى الأنصار ذلك قائلين:
إنهم لم يكونوا ينالون منّا قليلاً من ثمارنا ونحن كفار أفبعد الإسلام يشاركوننا فيها؟
وإذا أراد الله العناية بقوم هيأ لهم أسباب الظفر من حيث لا يعلمون. فانظر إلى هذه العناية من الله للمتمسكين بدينه القويم جاء نُعيم بن مسعود الأشجعي وهو صديق قريش واليهود ومن غطفان، فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وقومي لا يعلمون بإسلامي فمُرني بأمرك حتى أُساعدك. فقال:
«أنت رجل واحد وماذا عسى أن تفعل؟ ولكن خَذِّل عنّا ما استطعت فإن الحرب خدعه».
غزوة بني قُرَيْظة
ولما رجع عليه الصلاة والسلام بأصحابه، وأراد أن يخلع لباس الحرب، أمره الله باللحوق ببني قريظة، حتى يطهِّر أرضه من قوم لم تعد تنفع معهم العهود، ولا تربطهم المواثيق، ولا يأمن المسلمون جانبهم في شدة،
فقال لأصحابه: لا يُصَلِّيَنَّ أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فساروا مسرعين،
وتبعهم عليه الصلاة والسلام راكباً على حماره،
ولواؤه بيد علي بن أبي طالب، وخليفته على المدينة
عبد الله ابن أم مكتوم، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف،
وقد أدرك جماعة من الأصحاب صلاة العصر في الطريق
فصلاّها بعضهم حاملين أمر الرسول r بعدم صلاتها على قصد السرعة،
ولم يصلِّها الآخرون إلا في بني قريظة بعد مضي
وقتها حاملين الأمر على حقيقته فلم يُعنِّف فريقاً منهم.
ولما رأى بنو قريظة جيش المسلمين ألقى الله الرعب في قلوبهم،
وأرادوا التنصّل من فعلتهم القبيحة وهي الغدر بمن عاهدوهم
وقت الشغل بعدو آخر ولكن أنَّى لهم ذلك وقد ثبت للمسلمين غدرهم؟
فلما رأوا ذلك تحصنوا بحصونهم وحاصرهم المسلمون خمساً
وعشرين ليلة، فلما رأوا أن لا مناص من الحرب،
وأنهم إن استمروا على ذلك ماتوا جوعاً، طلبوا من المسلمين
أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من الجلاء بالأموال
وترك السلاح، فلم يقبل الرسول r، فطلبوا أن يجلوا بأنفسهم
من غير مال ولا سلاح فلم يرض أيضاً، بل قال: لا بدّ من النزول
والرضا بما يحكم عليهم خيراً كان أو شراً، فقالوا له:
أرسل لنا أبا لُبابة نستشيره، وكان أوسياً من حُلفاء بني قريظة،
له بينهم أولاد وأموال، فلما توجه إليهم استشاروه في النزول على حكم الرسول .
فقال لهم: انزلوا، وأومأ بيده إلى حلقه، يريد: أن الحكم الذبح، ويقول أبو لبابة
: لم أبارح موقفي حتى علمتُ أني خنت الله ورسوله،
فنزل من عندهم قاصداً المدينة خجلاً من مقابلة رسول الله ،
وربط نفسه في سارية من سواري المسجد حتى يقضي الله فيه أمره.
ولما سأل عنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما فعل، فقال:
أما لو جاءني لاستغفرت له،
أما وقد فعل ما فعل فنتركه حتى يقضي الله فيه.
ثم إن بني قريظة لما لم يروا بدّاً من النزول على حكم رسول الله فعلوا فأمر برجالهم فكُتِّفوا فجاءه رجال من الأوس وسألوه أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع حلفاء إخوانهم الخزرج، فقال لهم: ألا يرضيكم أن يحكم فيهم رجل منكم؟ فقالوا: نعم. واختاروا سيدهم سعد بن معاذ الذي كان جريحاً من السهم الذي أُصيب به في الخندق، وكان مقيماً بخيمة في المسجد معدّة لمعالجة الجرحى، فأرسل عليه الصلاة والسلام مَنْ يأتي به، فحملوه على حماره، والتفّ عليه جماعة من الأوس يقولون له: أحسن في مواليك، ألا ترى ما فعل ابن أُبَيّ في مواليه فقال لقد آن لسعد ألاّ تأخذه في الله لومةُ لائم ولما أقبل على الرسول وأصحابه وهم جلوس، قال عليه الصلاة والسلام: «قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه»، ففعلوا، وقالوا له: إن رسول الله قد ولاّك أمر مواليك لتحكم فيهم. وقال له الرسول : احكم فيهم يا سعد. فالتفت سعد للناحية التي ليس فيها رسول الله r وقال: عليكم عهدُ الله وميثاقه أن الحكم كما حكمت؟ فقالوا: نعم، فالتفت إلى الجهة التي فيها الرسول وقال: وعلى مَنْ هنا كذلك؟ وهو غاضٌّ طرفه إجلالاً، فقالوا: نعم، فقال: فإني أحكم أن تقتلوا الرجال، وتسبوا النساء والذرية فقال عليه الصلاة والسلام لقد حكمتَ فيهم بحكم الله يا سعد لأن هذا جزاء الخائن الغادر ثم أمر بتنفيذ الحكم فنفذ عليهم وجمعت غنائمهم فكانت ألفاً وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألفي رمح وخمسمائة ترس وحَجَفَةٍ ووجد أثاثاً كثيراً وآنية وأَجمالاً نواضِحَ وشياهاً فخمَّس ذلك كله مع النخل والسبي للراجل ثلث الفارس وأعطى النساء اللاتي يُمرضن الجرحى ووجد في الغنيمة جِرار خمر فأُريقت
زواج زينب بنت جحش
وفي هذا العام تزوج عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش وأمها أميمة عمته بعد أن طلقها مولاه زيد بن حارثة وكان من أمر زواجها لزيد أن الرسول خطبها له فتأففَ أهلها من ذلك لمكانها في الشرف العظيم فإن العرب كانوا يكرهون تزويج بناتهم من الموالي ويعتقدون أن لا كفؤ مِنْ سواهم لبناتهم وزيد وإن كان الرسول تبناه ولكن هذا لا يُلْحِقه بالأشراف
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً)
أخفى في نفسه ما أبداه الله فَبَتَّ الله حكمه بإبطال
هذه القاعدة وهي تحريم زوج المتبنَّى بقوله:
(فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُون
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ
مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً)
الحجاب
وفيه نزلت آية الحجاب وهو خاص بنساء رسول الله وكان عمر بن الخطاب قبل نزول آيته يحبّه ويذكره كثيراً ويودّ أن ينزل فيه قرآن وكان يقول لو أُطَاع فيكن ما رأتكنَّ عين فنزل
(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَآء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)
فقال بعضهم أَنُنْهى أن نكلم بنات عمّنا إلا من وراء حجاب لئن مات
محمد لأتزوجن عائشة فنزل بعد الآية المتقدمة
(وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن
بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً)
فرض الحج
وفي هذا العام على ما عليه الأكثرون فرض الله على الأمة الإسلامية حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ليجتمع المسلمون من جميع الأقطار فيتجهوا إلى الله ويبتهلوا إليه أن يؤيدهم بنصره ويُعينهم على اتباع دينه القويم وفي ذلك من تقوية الرابطة
واتحاد القلوب ما فيه للمسلمين الفائدة العظمى.
السَّنة السَّادسَة : سرية محمد بن مسلمة إلى ضرنية قبل نجد
غزوة بني لِحيان
بنو لحيان هم الذين قتلوا عاصم بن ثابت وإخوانه ولم يزل رسول الله حزيناً عليهم متشوقاً للقصاص من عدوهم حتى ربيع الأول من هذه السنة فأمر أصحابه بالتجهّز ولم يُظهر مقصده كما هي عادته عليه الصلاة والسلام في غالب الغزوات لتعمى الأخبار عن الأعداء وولى على المدينة ابن أُم مكتوم وسار في مائتي راكب معهم عشرون فرساً ولم يزل سائراً حتى مقتل أصحاب الرجيع فترحم عليهم ودعا لهم ولما سمع به بنو لحيان تفرقوا في الجبال فأقام عليه الصلاة والسلام بديارهم يومين يبعث السرايا فلا يجدون أحداً ثم أرسل بعضاً من أصحابه ليأتوا عُسْفَان حتى يعلم بهم أهل مكة فُيداخلهم الرعب فذهبوا إلى كُرَاع الغميم
ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وهو يقول
«آيبون تائبون لربنا حامدون أعوذ بالله من وعثاء السفر
وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال»
غزوة الغابة ذي قرد
كان للنبي عليه الصلاة والسلام عشرون لِقْحَة ترعى بالغابة فأغار عليها عُيينة بن حصن في أربعين فارساً واستلبها من راعيها فجاءت الأخبار رسول الله عليه الصلاة والسلام والذي بلَّغه هو سَلَمَةُ بن الأكوع أحد رماة الأنصار وكان عَدّاءً فأمره الرسول بأن يخرج في أثر القوم ليشغلهم بالنبل حتى يدركهم المسلمون فخرج يشتد في أثرهم حتى لحقهم وجعل يرميهم بالنبل فإذا وجّهت الخيل نحوه رجع هارباً فلا يُلحق فإذا دخلت الخيل بعض المضايق علا الجبل فرمى عليها الحجارة حتى ألقوا كثيراً مما بأيديهم من الرماح والأبراد ليخفّفوا عن أنفسهم حتى لا يلحقهم الجيش ولم يزل سلمة على ذلك حتى تلاحق به الجيش فإن الرسول دعا أصحابه فأجابوه وأول من انتهى إليه المقداد بن عمرو فقال له اخرج في طلب القوم حتى ألحقك وأعطاه اللواء فخرج وتبعته الفرسان حتى أدركوا أواخر العدو فحصلت بينهم مناوشات قتل فيها مسلم ومشركان واستنقذ المسلمون غالبَ اللقاح وهرب أوائل القوم بالبقية وطلب سلمة بن الأكوع من رسول الله أن يرسله مع جماعة في أثر القوم ليأخذهم على غرّة وهم نازلون على أحد مياههم فقال له عليه الصلاة والسلام
«مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ»
ثم رجع بعد خمس ليال.
سرية عكاشة بن محصن إلى بني أسد قبل نجد
كان بنو أسد الذين مَرّ ذكرهم كثيراً ما يؤذون مَنْ يمرّ بهم من المسلمين فأرسل لهم عليه الصلاة والسلام عُكَّاشة بن مِحْصَن في أربعين راكباً ليُغير عليهم ولما قارب بلادهم علموا به فهربوا وهناك وجدوا رجلاً نائماً فأمّنوه ليدلّهم على نَعَم القوم فدلّهم عليها فاستاقوها وكانت مائة بعير ثم قدموا المدينة ولم يلقوا كيداً.
سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القضة
وفي ربيع الأول بلغه عليه الصلاة والسلام أن من بذي القَصّة يريدون الإغارة على نَعَم المسلمين التي ترعى بالهيفاء، فأرسل لهم محمد بن مسلمة في عشرة من المسلمين فبلغ ديارهم ليلاً، وقد كَمَن المشركون حينما علموا بهم، فنام المسلمون، ولم يشعروا إلا والنبل قد خالطهم، فتواثبوا على أسلحتهم ولكن تغلب عليهم الأعداء فقتلوهم، غير محمد بن مسلمة تركوه لظنهم أنه قُتِل، فعاد إلى المدينة، وأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام.
سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم في الجهوم
عاكَسَ بنو سُليم الذين كانوا من المتحزبين في غزوة الخندق المسلمين في سيرهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام زيدَ بن حارثة في ربيع الآخر ليُغير عليهم في الجَمُوم فلما بلغوا ديارهم وجدوهم تفرقوا، ووجدوا هناك امرأة من مُزينة دلّتهم على منازل بني سُليم، أصابوا بها نَعَماً وشاءً، ووجدوا رجالاً أسروهم، وفيهم زوج تلك المرأة، فرجعوا بذلك إلى المدينة، فوهب الرسول لهذه المرأة نفسها وزوجها.
سرية زيد بن حارثة إلى العيص
بلغ الرسول أن عِيراً لقريش أقبلت من الشام تريد مكة فأرسل لها زيد بن حارثة في مائة وسبعين راكباً ليعترضها، فأخذها وما فيها وأسر مَن معها من الرجال، وفيهم أبو العاص بن الربيع، زوج زينب بنت رسول الله ، وكان من رجال مكة المعدودين تجارة ومالاً وأمانةً، فاستجار بزوجه زينب فأجارته، ونادت بذلك في مجمع قريش، فقال عليه الصلاة والسلام: المسلمون يد واحدة، يُجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجرتِ وهذا أبلغ ما قيل في المساواة بين أفراد المسلمين وردّ عليه الرسول ماله بأسره لا يفقد منه شيء، فذهب إلى مكة. فأدى لكل ذي حقَ حقَّه، ورجع إلى المدينة مسلماً، فردّ عليه رسول الله زوجه.
سرية زيد بن حارثة إلى بني ثعلبة بالطرف
وفي جمادى الآخرة أرسل عليه الصلاة والسلام زيدَ بن حارثة في خمسة عشر رجلاً، للإغارة على بني ثعلبة، الذين قتلوا أصحاب محمد بن مسلمة وهم مقيمون بالطَّرَفِ. فتوجهت السرية لذلك، ولما رآهم الأعداء ظنوهم طليعة لجيش رسول الله ، فهربوا وتركوا نَعَمهم وشاءهم، فاستاقها المسلمون ورجعوا إلى المدينة بعد أربع ليالٍ.
سرية زيد بن حارثة إلى بني فرارة بوادي القرى
وفي رجب أرسل عليه الصلاة والسلام زيدَ بن حارثة، ليُغيرَ على بني فَزَارة لأنهم تعرضوا لزيد وهو راجع بتجارة من الشام، فسلبوا ما معه، وكادوا يقتلونه، فلما جاء المدينة، وأخبر الرسول الخبر، أرسله مع رجاله للقصاص من فَزارة المقيمين في وادي القُرى. فساروا حتى دهموا العدو وأحاطوا بهم، وقتلوا منهم جمعاً كثيراً، وأخذوا امرأة من كبارهم أسيرة، فاستوهبها عليه الصلاة والسلام ممّن أسرها وفدى بها أسيراً كان بمكة.
سرية عبد الرحمن بن عوف إلى بني كلب بدومة الجندل
وفي شعبان أرسل عليه الصلاة والسلام عبد الرحمن بن عوف مع سبعمائة من الصحابة لغزو بني كلب في دُومة الجَنْدل، وقد وصّاهم عليه الصلاة والسلام قبل السفر بقوله: اغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، ولا تَغُلُّوا ولا تغدروا ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله وسيرة نبيّه فيكم ثم أعطاه اللواء فساروا على بركة الله حتى حلّوا بديار العدو فدعوهم إلى الإسلام ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أسلم رئيس القوم الأَصْبَغ بن عمرو النصراني، وأسلم معه جمع من قومه، وبقي آخرون راضين بإعطاء الجزية، فتزوج عبد الرحمن بنت رئيسهم، كما أمره بذلك عليه الصلاة والسلام، وهذه أقرب واسطة لتمكين صلات الودّ بين الأمراء بحيث يهمّ كلاًّ ما يهمّ الآخر، فنِعما هي سياسة السلم والمحبة.
سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بفدك
وفي شعبان أرسل عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب في مائة لغزو بني سعد بن بكر بفَدَك لأنه بلغه أنهم يجمعون الجيوش لمساعدة يهود خيبر على حرب المسلمين مقابل تمر يُعطَونه من تمر خيبر، فسارت السرية، وبينما هم سائرون التقوا بجاسوس للعدوّ، وكانوا قد أرسلوه إلى خيبر ليعقد المعاهدة مع يهودها، فطلبوا منه أن يدلّهم على القوم وهو آمنٌ، فدلهم على موضعهم، فاستاق منه المسلمون نَعَم القوم، وهرب الرعاةُ، فحذَّروا قومهم، فدَاخَلَهم الرعب، وتفرقوا، فرجع المسلمون ومعهم خمسمائة بَعير وألفا شاةٍ،
وردّ الله كيدَ المشركين فلم يمدُّوا اليهود بشيء.
سرية عبد الله بن عتيك قتل أبي رافع
وكان المحرّك لأهل خيبر على حرب المسلمين، وهو سيدهم، أبو رافع سَلاّم بن أبي الحُقيق الملقب بتاجر أهل الحجاز، لما كان له من المهارة في التجارة، وكان ذا ثروة طائلة يُقَلِّبُ بها قلوبَ اليهود كما يريد، فانتدب له عليه الصلاة والسلام مَنْ يقتله،
فأجاب لذلك خمسة رجال من الخزرج رئيسهم عبد الله بن
عَتِيْك، ليكون لهم مثل أجر إخوانهم من الأوس الذين قتلوا كعبَ بن الأشرف، فإن من نِعم الله على رسوله أن كان الأوس والخزرج يتفاخرون بما يفعلونه من تنفيذ رغبات رسول الله r، فلا تعمل الأوسُ عملاً إلا اجتهد الخزرجُ في مثله، فأمرهم الرسول
بذلك بعد أن وصَّاهم ألاّ يقتلوا وليداً ولا امرأة.
سرية عبد الله بن رواحة إلى خبير لقتل أسير بن رزام
ولما قُتل كعبٌ ولّى اليهود مكانه أُسَير بن رِزام، فأرسل عليه الصلاة والسلام مَنْ يستعلم له خبره فجاءته الأخبار بأنه قال لقومه: سأصنع بمحمد ما لم يصنعه أحدٌ قبلي، أسير إلى غطفان فأجمعهم لحربه، وسعى في ذلك. فأرسل عليه الصلاة والسلام عبد الله بن رواحة الخزرجي في ثلاثين من الأنصار لاستمالته، فخرجوا حتى قدموا خيبر، وقالوا لأسير: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له؟ قال: نعم، ولي مثل ذلك، فأجابوه، ثم عرضوا عليه أن يقدم على رسول الله ويترك ما عزم عليه من الحرب فيولِّيه الرسول على خيبر، فيعيش أهلها بسلام، فأجاب إلى ذلك وخرج في ثلاثين يهودياً كلُّ يهودي رديفٌ لمسلم، وبينما هم في الطريق ندم أُسَير على مجيئه، وأراد التخلّص مما فعل بالغدر بمن أمَّنوه فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن رواحة، فقال له: أغدراً يا عدو الله ثم نزل وضربه بالسيف فأطاح عامّة فخذه، ولم يلبث أن هلك، فقام المسلمون على مَن معه من اليهود فقتلوهم عن آخرهم. وهذه عاقبة الغدر.
سرية عمرو بن أمية الضمري لقتل أبي سفيان
جلس أبو سفيان بن حرب يوماً في نادي قومه، فقال: ألا رجل يذهب لمحمد فيقتله غدراً فإنه يمشي بالأسواق لنستريحَ منه؟ فتقدم له رجل وتعهد له بما أراد، فأعطاه راحلةً ونفقةً وجهّزه لذلك. فخرج الرجل حتى وصل إلى المدينة صُبْحَ سادسةٍ من خروجه، فسأل عن رسول الله فَدُلَّ عليه وهو بمسجد بني عبد الأشهل،
فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال:
«إن هذا الرجل ليريد غدراً، وإن الله مانعي منه»
فذهب لينحني على الرسول ، فجذبه أُسيد بن حضير من إزاره، وهنالك سقط الخنجر، فندم الرجلُ على فعلته، ثم سأله عليه الصلاة والسلام عن سبب عمله فصدقه بعد أن توثّق من حفظ دمه، فخلّى عليه الصلاة والسلام سبيله. فقال الرجل: والله يا محمد ما كنت أخافُ الرجال، فما هو إلا أَنْ رأيتك فذهب عقلي وضعفت نفسي، ثم إنك اطّلعت على ما هَممتُ به مما لم يعلمه أحد، فعرفتُ أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبي سفيان حزبُ الشيطان، ثم أسلم.
غزوة الحُدَيْبيَة
رأى عليه الصلاة والسلام في نومه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلِّقين رؤوسَهم ومقصِّرين، فأخبر المسلمين أنه يريد العمرة، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة ليكونوا معه، حذراً من أن تردّهم قريش عن عمرتهم، ولكن هؤلاء الأعراب أبطؤوا عليه لأنهم ظنوا ألاّ ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً، وتخلَّصوا بأن قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا، فخرج عليه الصلاة والسلام بمن معه من المهاجرين والأنصار تبلغ عدّتهم ألفاً وخمسمائة، وولى على المدينة ابن أُم مكتوم، وأخرج معه زوجه أم سلمة، وأخرج الهَدْيَ ليعلم الناس أنه لم يأت محارباً، ولم يكن مع أصحابه شيء من السلاح إلا السيوف في القُرُب، لأن الرسول لم يرضَ أن يحملوا السيوف مجردة وهم معتمرون، ثم سار الجيش حتى وصل عُسْفان فجاءه عينه يخبره أن قريشاً أجمعت رأيها أن يصدّوا المسلمين عن مكة وألاّ يدخلوها عليهم عَنْوةً أبداً. وتجهزوا للحرب، وأعدّوا خالد بن الوليد في مائتي فارس طليعة لهم ليصدّوا المسلمين عن التقدم، فقال عليه الصلاة والسلام: هل من رجل يأخذ بنا على غير طريقهم فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله. فسار بهم في طريق وعرة، ثم خرج بهم إلى مستوٍ سهل يملك مكة من أسفلها، فلما رأى خالد ما فعل المسلمون رجع إلى قريش وأخبرهم الخبر. ولما كان عليه الصلاة والسلام بثنيّة المُرَار بركت ناقته. فزجروها فلم تقم،
فقالوا: خلأَتِ القَصْوَاء،
فقال عليه الصلاة والسلام:
«ما خلأت وما ذلك لها بخُلق، ولكن حبسها حابسُ الفيل.
والذي نفسُ محمد بيده لا تدعوني قريش لِخَصْلَة
فيها تعظيمُ حرمات الله إلا أجبتهم إليها»
مع أن المسلمين لو قاتلوا أعداءهم في مثل هذا الوقت لظفروا بهم، ولكن كَفَّ الله أيدي المسلمين عن قريش، وكَفَّ أيدي قريش عن المسلمين كيلا تُنتهك حُرمات البيت الذي أراد الله أن يكون حرماً آمناً، ويوطد المسلمون من جميع الأقطار دعائمَ أخوتهم فيه. ثم أمرهم عليه الصلاة والسلام بالنزول أقصى الحديبية وهناك جاء بُدَيلبن وَرْقَاء الخُزاعي رسولاً من قريش، يسأل عن سبب مجيء المسلمين، فأخبره عليه الصلاة والسلام بمقصده، فلما رجع بُديل إلى قريش وأخبرهم بذلك لم يثقوا به لأنه من خزاعة الموالية لرسول الله r كما كانت كذلك لأجداده وقالوا: أيريد محمدٌ أن يدخل علينا في جنوده معتمراً تسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة، وبيننا وبينهم من الحرب ما بيننا؟ والله لا كان هذا أبداً ومنا عَيْن تَطْرف. ثم أرسلوا حُلَيْسَ بن علقمة سَيِّد الأحابيش وهم حلفاء قريش
فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال هذا مِنْ قوم يعظّمون الهدْي،
ابعثوه في وجهه حتى يراه، ففعلوا، واستقبله الناس يُلَبُّون،
فلما رأى ذلك حُلَيْس رجع، وقال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا.
أتحجُّ لخم وجذام وحمير، ويُمنع
عن البيت ابن عبد المطلب؟ هلكْت قريش، وربِّ البيت إن القوم أَتَوا معتمرين.فلما سمعت قريش منه ذلك قالوا له: اجلسْ إنما أنت أعرابي لا علم لك بالمكايد، ثم أرسلوا عُرْوَةَ بن مسعود الثقفي سيد أهل الطائف فتوجه إلى رسول الله r، وقال: يا محمد قد جمعتَ أوباشَ الناس، ثم جئت إلى أهلك وعشيرتك لِتَفُضَّها بهم إنها قريش قد خرجت تعاهد الله ألا تدخلها عليهم عَنْوة أبداً. وايمُ الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك. فنال منه أبو بكر وقال نحن ننكشف عنه ويحك وكان عروة يتكلم وهو يمسّ لحية رسول الله فكان المغيرة بن شعبة يقرع يده إذا أراد ذلك ثم رجع عروة وقد رأى ما يصنع بالرسول أصحابه لا يتوضأ وضُوءاً إلا كادوا يقتتلون عليه يتمسحون به وإذا تكلموا خَفَضوا أصواتهم عنده، ولا يُحِدُّون النظر إليه فقال والله يا معشر قريش جئتُ كسرى في ملكه وقيصرَ في عظمته فما رأيتُ مَلِكاً في قومه مثل محمد في أصحابه ولقد رأيت قوماً لا يُسلمونه لشيء أبداً، فانظروا رأيكم، فإنه عرض عليكم رشداً فاقبلوا ما عرض عليكم فإني لكم ناصح مع أني أخاف ألا تنصروا عليه
فقالت قريش لا تتكلم بهذا ولكن نردّه عامنا ويرجع إلى قابل.
بيعة الرضوان
ودعا الناسَ للبيعة على القتال فبايعوه تحت شجرة هناك سميت بعد بشجرة الرضوان على الموت فشاعَ أمر هذه البيعة في قريش فداخلهم منها رعب عظيم، وكانوا قد أرسلوا خمسين رجلاً عليهم مكرزُ بن حفص ليطوفوا بعسكر المسلمين لعلهم يصيبون منهم غِرَّة، فأسرهم حارس الجيش محمد بن مسلمة وهرب رئيسهم، ولما علمت بذلك قريش جاء جمع منهم وابتدؤوا يناوشون المسلمين حتى أسر منهم اثنا عشر رجلاً وقُتل من المسلمين واحد.
صلح الحُدَيبية
وعند ذلك خافت قريش وأرسلت سهيل بنَ عَمْرو للمكالمة في الصلح، فلما جاء قال: يا محمد إن الذي حصل ليس من رأي عقلائنا بل شيء قام به السفهاء منّا فابعث بمن أسرت، فقال: حتى ترسلوا مَنْ عندكم. وعندئذٍ أرسلوا عثمان والعشرة الذين معه، ثم عرض سهيل الشروط التي تريدها قريش وهي:
وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنوات.
من جاء المسلمين من قريش يردّونه،
ومن جاء قريشاً من المسلمين لا يلزمون بردّه.
أن يرجع النبي من غير عمرة هذا العام،
ثم يأتي العام المقبل فيدخلها بأصحابه بعد أن تخرج منها قريش،
فيقيم بها ثلاثة أيام ليس مع أصحابه من السلاح إلا السيف
في القراب والقوس من أراد أن يدخل في عهد محمد من غير
قريش دخل فيه ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه
فقبل عليه الصلاة والسلام كل هذه الشروط
أما المسلمون فداخلهم منها أمر عظيم
وقالوا سبحان الله كيف نَرُدُّ إليهم من جاءنا مسلماً
ولا يردّون مَنْ جاءهم مُرْتداً
فقال عليه الصلاة والسلام إنه من ذهب منّا إليهم فأبعده الله
ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً
أما الأمر الثالث وهو صدُّ المسلمين عن الطواف بالبيت
فكان أشد تأثيراً في قلوبهم لأن الرسول أخبرهم أنه رأى في منامه
أنهم دخلوا البيت آمنين وقد سأل عمر أبا بكر في ذلك فقال :
وهل ذكر أنه في هذا العام.
السَّنَة السَّابعة : غزوة خَيبر
وفي محرم السنة السابعة أمر عليه الصلاة والسلام بالتجهّز لغزو يهود خيبر الذين كانوا أعظم مُهَيِّجٍ للأحزاب ضد رسول الله في غزوة الخندق والذين لا يزالون مجتهدين في محالفة الأعراب ضد رسول الله وقد استنفر رسولُ الله لذلك مَنْ حوله من الأعراب الذين كانوا معه بالحديبية، وجاء المخلَّفون عنها ليؤذَن لهم،
فقال عليه الصلاة والسلام:
لا تخرجوا معي إلا رغبة في الجهاد، أما الغنيمة فلا أعطيكم منها شيئاً»،
وأمر منادياً ينادي بذلك، ثم خرج عليه الصلاة والسلام بعد أن ولَّى على المدينة سِبَاعَ بن عُرْفُطَةَ الغفاري. وكان معه من أزواجه أُمّ سلمة، ولما وصل جيش المسلمين إلى خيبر التي تبعد عن المدينة نحو مائة ميل من الشمال الغربي، رفعوا أصواتهم بالتكبير والدعاء،
فقال عليه الصلاة والسلام:
ارفقوا بأنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً،
إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم
وكانت حصون خيبر ثلاثة منفصلاً بعضها عن بعض،
وهي: حصون النَّطَاة، وحصون الكَتيبة.
والأولى ثلاثة: حصن ناعم، وحصن الصَّعْب، وحصن قُلَّةٍ.
والثانية حصنان: حصن أُبيّ، وحسن البريء.
والثالثة ثلاثة حصون: حصن القَمُوص، وحصن الوَطِيْح، وحصن السُّلاِلم.
فبدأ عليه الصلاة والسلام بحصون النَّطاة،
وعسكر المسلمون شرقيها بعيداً عن مدى النبل،
وأمر عليه الصلاة والسلام أن يقطع نخلهم ليرهبهم حتى يسلموا،
فقطع المسلمون نحو أربعمائة نخلة.
ولما رأى عليه الصلاة والسلام تصميم اليهود على الحرب نهى عن القطع،
ثم ابتدأ القتال مع حصن ناعم بالمراماة،
وكان لواء المسلمين بيد أحد المهاجرين فلم يصنع في ذلك اليوم شيئاً،
وفيه مات محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة،
وصار عليه الصلاة والسلام يغدو كل يوم مع بعض الجيش للمناوشة، ويخلّف على العسكر أحد المسلمين، حتى إذا كانوا في الليلة السادسة، ظفر حارس الجيش، وهو عمر بن الخطاب، بيهودي خارج في جوف الليل، فأتى به رسول الله عليه الصلاة والسلام،
ولما أدرك الرجل الرعب قال: إن أمَّنْتُموني أدّلكم على أمر فيه نجاحكم.
فقالوا: دُلَّنَا فقد أَمَّنَّاك، فقال: إن أهل هذا الحصن أدركهم الملال والتعب،
وقد تركتهم يبعثون بأولادهم إلى حصن الشَّق، وسيخرجون لقتالكم غداً،
فإذا فتح عليكم هذا الحصن غداً فإني أدلكم على بيت
فيه منجنيق ودبابات ودروع وسيوف،
يسهل عليكم بها فتح بقية الحصون، فإنكم تنصبون المنجنيق،
ويدخل الرجال تحت الدبابات، فينقبون الحصن فتفتحه من يومك،
فقال عليه الصلاة والسلام لمحمد بن مسلمة:
سأُعطي الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّانه»
فبات المهاجرون والأنصار كلهم يتمنّونها، حتى قال عمر بن الخطاب:
ما تمنيت الإمارة إلا ليلتئذ.فلما كان الغد سأل عليه الصلاة والسلام
عن علي بن أبي طالب فقيل له: إنه أرمد، فأرسل مَنْ يأتيه به،
ولما جاء تَفَلَ في عينيه فشفاهما الله كأن لم يكن بهما شيء،
ثم أعطاه الراية، فتوجه مع المسلمين للقتال،
وهناك وجدوا اليهود متجهزين، فخرج يهودي يطلب البِرَاز فقتله عليٌّ،
ثم خرج مَرْحَبٌ، وهو أشجع القوم، فألحقه برفيقه،
فخرج أخوه ياسر، فقتله الزبير بن العوّام،
ثم حملَ المسلمون على اليهود حتى كشفوهم عن مواقفهم،
وتبعوهم حتى دخلوا الحصن بالقوة وانهزم الأعداء إلى الحصن الذي يليه
وهو حصن الصَّعْبِ، وغنم المسلمون من حصن ناعم كثيراً من الخبز والتمر،
ثم تتبعوا اليهود إلى حصن الصَّعْب، فقاتل عنه اليهود قتالاً شديداً حتى
رد عنه المسلمون، ولكن ثبت الحباب بن المنذر ومن معه
وقاتلوا قتالاً شديداً حتى هزموا اليهود،
فتبعوهم حتى افتتحوا عليهم الحصن،
فوجدوا فيه غنائم كثيرة من الطعام
فأمر عليه الصلاة والسلام منادياً يقول:
«كلوا واعلفوا دوابكم ولا تأخذوا شيئاً.
ثم إن الذين انهزموا من هذا الحصن ساروا إلى حسن قُلَّةٍ، فتبعهم المسلمون،
وحاصروهم ثلاثة أيام حتى استصعب عليهم فتحه،
وفي اليوم الرابع دلَّهم يهودي على جداول الماء التي يستقي منها اليهود،
فمنعوها عنهم، فخرجوا،
وقاتلوا قتالاً شديداً انتهى بهزيمتهم إلى حصون الشَّقِّ.
زواج السيده صفية
في ربيع الآخر بلغه عليه الصلاة والسلام أن قبائل من نجد يتهيؤون لحربه وهم بنو محارب وبنو ثعلبة فتجهَّز لهم وخرج في سبعمائة مقاتل وولّى على المدينة عثمان بن عفان ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا ديار القوم فلم يجدوا فيها أحداً غير نسوة فأخذهنّ فبلغ الخبر رجالهم فخافوا وتفرقوا في رؤوس الجبال ثم اجتمع جمع منهم وجاؤوا للحرب فتقارب الناسُ وأخافَ بعضهم بعضاً ولما حانت صلاة العصر وخاف عليه الصلاة والسلام أن يغدر بهم الأعداء وهم يصلّون صلى بالمسلمين صلاة الخوف فألقى الله الرعب في قلوب الأعداء وتفرقت جموعهم خائفين منه .
غزوة بدر الآخرة
لما أهلّ شعبانُ هذا العام كان موعد أبي سفيان فإنه بعد انقضاء غزوة أُحُد قال للمسلمين موعدنا بدر العام المقبل فأجابه الرسول إلى ذلك وكان بدر محل سوق تُعقد كل عام للتجارة في شعبان فلما حَلَّ الأجلُ وقريش مُجدبون لم يتمكن
أبو سفيان من الإيفاء بوعده فأراد أن يخذل المسلمين عن الخروج كيلا يُوسم بخلف الوعد فاستأجر نُعيم بن مسعود الأشجعي ليأتي المدينة ويُرجفَ بما جمعه أبو سفيان من الجموع العظيمة فقدم نُعيم المدينة وقال
(إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
ولم يلتفت عليه الصلاة والسلام لهذا الإرجاف اتِّكالاً على ربه بل خرج بألف وخمسمائة من أصحابه واستخلف على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أُبَيَ ولم يزالوا سائرين حتى أتوا بدراً فلم يجدوا بها أحداً لأن أبا سفيان أشار على قريش بالخروج على نيّة الرجوع بعد مسير ليلة أو ليلتين ظانّاً أن إرجاف نُعيم يفيد فيكون المخلف هم المسلمون فقال لقومه إن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام عشب فارجعوا.
حوادث
وفي هذا العام ولد الحسين بن علي وفيه توفيت زينب بنت خزيمة أُم المؤمنين وفيه توفي أبو سَلَمة ابن عمة رسول الله وأخوه من الرضاعة وأولُ من هاجر إلى المدينة وقلبها هاجر إلى الحبشة وفيه تزوج عليه الصلاة والسلام أُمَّ سَلَمَةَ هنداً زوج أبي سلمة بعد وفاته وفيه توفي عبد الله بن عثمان وهو من السيدة رقية وكان ابن ست سنين وتوفي أيضا عامر بن فهيرة.
السَّنة الخامِسَة : غزوة دومة الجندل
وفي ربيع الأول من هذا العام بلغ النبي أن جمعاً من الأعراب بدُومة الجندل يظلمون من مَرَّ بهم، وأنهم يريدون الدنو من المدينة فتجهز لغزوهم، وخرج في ألف من أصحابه، بعد أن وَلَّى على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطة الغِفاري، ولم يزل يسير الليل ويكمُن النهار حتى قرب منهم، فلما بلغهم الخبر تفرقوا، فهجم المسلمون على ماشيتهم ورعائهم، فأُصيب مَنْ أُصيبَ، وهرب من هرب، ثم نزل بساحتهم فلم يلقَ أحداً، وبثّ السرايا فلم يجد منهم أحداً، فرجع عليه الصلاة والسلام غانماً، وصالح وهو عائد عيينةَ بن حِصْنٍ الفَزاري، وهو الذي كان يسمّيه عليه الصلاة والسلام الأحمق المطاع، لأنه كان يتبعه ألف قَنَاة، وأقطعه عليه الصلاة والسلام أرضاً يرعى فيها بهمه على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة لأن أرضه كانت قد أجدبت.
غزوة بن المُصْطَلِق
في شعبان، بلغه عليه الصلاة والسلام أن الحارث بن أبي ضرار سيدَ بني المصطلق الذين ساعدوا قريشاً على حرب المسلمين في أُحُد يجمع الجموع لحربه فخرج له عليه الصلاة والسلام في جمع كثير وولَّى على المدينة زيدَ بن
حارثة وخرج معه من نسائه عائشةُ وأُم سلمة. وخرج معه ناس من المنافقين لم يخرجوا قطُّ في غزوة مثلها يرجون أن يصيبوا من عَرَضِ الدنيا وفي أثناء مسيره عليه الصلاة والسلام التقى بعَيْنِ بني المصطلق فسأله عن أحوال العدو فلم يجبْ فأمر بقتله ولما بلغ الحارث رئيس الجيش مجيء المسلمين لحربه وأنهم قتلوا جاسوسه خاف هو وجيشه خوفاً شدياً حتى تفرق عنه بعضهم ولما وصل المسلمون إلى الْمُرَيْسِيع تَصَافَّ الفريقان للقتال بعد أن عرض عليهم الإسلام فلم يقبلوا فتراموا بالنبل ساعة، ثم حمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد فلم يتركوا لرجل من عدوهم مجالاً للهرب بل قتلوا عشرة منهم وأسروا باقيهم مع النساء والذرية واستاقوا الإبل والشياه وكانت الإبل ألفي بعير والشياه خمسة آلاف، واستعمل الرسول على ضبطها مولاه شُقران، وعلى الأسرى بُرَيدة وكان في نساء المشركين بَرَّة بنت الحارث سيد القوم وقد أخذ من قومها مئتا بيتٍ أسرى وُزِّعَتْ على المسلمين وهنا يظهر حُسْن السياسة ومنتهى الكرم فإن بني المصطلق من أعزِّ العرب داراً فأسْرُ نسائهم بهذه الحال صعب جداً فأراد عليه الصلاة والسلام أن يجعل المسلمين يَمُنُّونَ على النساء بالحرية من تلقاء أنفسهم فتزوج برّة بنت الحارث التي سمّاها جُوَيْرِيَةَ فقال المسلمون أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم في أيدينا فمنّوا عليهم بالعتق فكانت جويريةُ أيمنَ امرأةٍ على قومها كما قالت عائشة y، وتسبَّب عن هذا الكرم العظيم وهذه المعاملة الجليلة أن أسلم بنو المصطلق عن بكرة أبيهم وكانوا للمسلمين بعد أن كانوا عليهم.
غزوة الخندق
لم يقرّ لعظماء بني النضير قرار بعد جلائهم عن ديارهم وإرث المسلمين لها، بل كان في نفوسهم دائماً أن يأخذوا ثأرهم ويستردّوا بلادهم فذهب جمع منهم إلى مكة، وقابلوا رؤساء قريش حرّضوهم على حرب رسول الله ومنّوهم المساعدة، فوجدوا منهم قبولاً لما طلبوه ثم جاؤوا إلى قبيلة غطفان وحرّضوا رجالها كذلك، وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب فوجدوا منهم ارتياحاً.
فتجهزت قريش وأتباعها يرأسهم أبو سفيان ويحمل لواءهم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري، وعددهم أربعة آلاف، معهم ثلاثمائة فرس، وألف وخمسمائة بعير. وتجهزت غطفان يرأسهم عُيَيْنَةُ بن حِصن الذي جازى إحسان رسول الله r كفراً، فإنه كما قدّمنا أقطعه أرضاً يرعى فيها سوائمه، حتى إذا سمن خفُّه وحافره، قام يقود الجيوش لحرب من أنعم عليه، وكان معه ألف فارس. وتجهزت بنو مرّة يرأسهم الحارث بن عوف المري وهم أربعمائة وتجهزت بنو أشجع يرأسهم أبو مسعود بن رُخَيلَةَ وتجهزت بنو سليم يرأسهم
سفيان بن عبد شمس وهم سبعمائة وتجهزت بنو أسد يرأسهم طليحة بن خويلد الأسدي وعدة الجميع عشرة آلاف محارب قائدهم العام أبو سفيان.
ولما بلغه عليه الصلاة والسلام أخبار هاتِه التجهيزات، استشار أصحابه فيما يصنع أيمكث بالمدينة أم يخرج للقاء هذا الجيش الجرّار فأشار عليه سلمان الفارسي بعمل الخندق وهو عمل لم تكن العرب تعرفه، فأمر عليه الصلاة والسلام المسلمين بعمله، وشرعوا في حفره شمالي المدينة من الحرّه الشرقية إلى الحرّة الغربية وهذه هي الجهة التي كانت عورة تُؤتى المدينة من قبلها. أما بقية حدودها فمشتبكة بالبيوت والنخيل، لا يتمكن العدو من الحرب جهتها.
وقد قاسى المسلمون صعوبات جسيمة في حفر الخندق، لأنهم لم يكونوا في سعة من العيش حتى يتيسر لهم العمل، وعمل معهم عليه الصلاة والسلام، فكان ينقل التراب متمثلاً بشعر ابن رواحة: اللهمَّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدَّقْنا ولا صلّينا فَأَنْزِلَنْ سكينةً علينا وثبِّتِ الأقدامَ إن لاقينا والمشركون قد بَغَوا علينا وإن أرادوا فتنةً أبينا وأقام الجيش في الجهة الشرقية مسنداً ظهره إلى سَلْع وهو جبل مطل على المدينة وعدّتهم ثلاثة آلاف، وكان لواء المهاجرين مع زيد بن حارثة، ولواء الأنصار مع سعد بن عبادة. أما قريش فنزلت بمَجْمع الأسيال، وأما غطفان فنزلت جهة أُحُد. وكان المشركون معجبين بمكيدة الخندق التي لم تكن العرب تعرفها، فصاروا يترامون مع المسلمين بالنبل. ولما طال المطال عليهم أكره جماعة منهم أفراسهم على اقتحام الخندق منهم عكرمة بن أبي جهل وعمرو بن عَبْدِ وَدَ وآخرون وقد برز علي بن أبي طالب t لعمرو بن عبد ود فقتله وهرب إخوانه، وهوى في الخندق نوفل بن عبد الله، فاندقت عنقه، ورُمي سعد بن معاذ t بسهم قطع أَكْحله، وهو شريان الذراع، واستمرت المناوشة والمراماة بالنبل يوماً كاملاً حتى فاتت المسلمين صلاة ذاك اليوم وقضوها بعد، وجعل عليه الصلاة والسلام على الخندق حُرَّاساً حتى لا يقتحمه المشركون بالليل، وكان يحرس بنفسه ثُلمة فيه مع شدة البرد، وكان عليه الصلاة والسلام يبشّر أصحابه بالنصر والظفر ويَعِدهم الخير.أما المنافقون فقد أظهروا في هذه الشدة ما تكنُّه ضمائرهم حتى قالوا:
(مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً)
وانسحبوا قائلين: إن بيوتنا عورة نخاف أن يُغير عليها العدو
(وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً)
واشتدت الحال بالمسلمين،
فإن هذا الحصار صاحَبَه ضيق على فقراء المدينة، والذي زاد الشدة عليهم ما بلغهم من أن يهود بني قريظة الذين يُساكنونهم في المدينة قد انتهزوا هذه الفرصة لنقض العهود، وسبب ذلك أن حُيَيَّ بن أَخْطَب سيد بني النضير المجلين توجه إلى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة، وكان له كالشيطان إذ قال للإنسان اكفر، فحسَّن له
نقض العهد، ولم يزل به حتى أجابه لقتال المسلمين.
ولما بلغت هذه الأخبار رسول الله أرسل مسلمة بن أسلم في مائتين،
وزيد بن حارثة في ثلاثمائةٍ لحراسة المدينة، خوفاً على النساء والذراري،
وأرسل الزبير بن العوّام يستجلي له الخبر فلما وصلهم
وجدهم حانقين يظهر على وجوههم الشر ونالوا من رسول الله
والمسلمين أمامه، فرجع وأخبر الرسول بذلك. وهناك اشتد
وَجَلُ المسلمين وزلزلوا زلزالاً شديداً، لأن العدو جاءهم من فوقهم
ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر
وظنوا بالله الظنون، وتكلم المنافقون بما بَدا لهم،
فأراد عليه الصلاة والسلام أن يرسل لعُيَيْنَة َبن حِصْنٍ،
ويصالحه على ثلث ثمار المدينة لينسحب بغطفان،
فأبى الأنصار ذلك قائلين:
إنهم لم يكونوا ينالون منّا قليلاً من ثمارنا ونحن كفار أفبعد الإسلام يشاركوننا فيها؟
وإذا أراد الله العناية بقوم هيأ لهم أسباب الظفر من حيث لا يعلمون. فانظر إلى هذه العناية من الله للمتمسكين بدينه القويم جاء نُعيم بن مسعود الأشجعي وهو صديق قريش واليهود ومن غطفان، فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وقومي لا يعلمون بإسلامي فمُرني بأمرك حتى أُساعدك. فقال:
«أنت رجل واحد وماذا عسى أن تفعل؟ ولكن خَذِّل عنّا ما استطعت فإن الحرب خدعه».
غزوة بني قُرَيْظة
ولما رجع عليه الصلاة والسلام بأصحابه، وأراد أن يخلع لباس الحرب، أمره الله باللحوق ببني قريظة، حتى يطهِّر أرضه من قوم لم تعد تنفع معهم العهود، ولا تربطهم المواثيق، ولا يأمن المسلمون جانبهم في شدة،
فقال لأصحابه: لا يُصَلِّيَنَّ أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فساروا مسرعين،
وتبعهم عليه الصلاة والسلام راكباً على حماره،
ولواؤه بيد علي بن أبي طالب، وخليفته على المدينة
عبد الله ابن أم مكتوم، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف،
وقد أدرك جماعة من الأصحاب صلاة العصر في الطريق
فصلاّها بعضهم حاملين أمر الرسول r بعدم صلاتها على قصد السرعة،
ولم يصلِّها الآخرون إلا في بني قريظة بعد مضي
وقتها حاملين الأمر على حقيقته فلم يُعنِّف فريقاً منهم.
ولما رأى بنو قريظة جيش المسلمين ألقى الله الرعب في قلوبهم،
وأرادوا التنصّل من فعلتهم القبيحة وهي الغدر بمن عاهدوهم
وقت الشغل بعدو آخر ولكن أنَّى لهم ذلك وقد ثبت للمسلمين غدرهم؟
فلما رأوا ذلك تحصنوا بحصونهم وحاصرهم المسلمون خمساً
وعشرين ليلة، فلما رأوا أن لا مناص من الحرب،
وأنهم إن استمروا على ذلك ماتوا جوعاً، طلبوا من المسلمين
أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من الجلاء بالأموال
وترك السلاح، فلم يقبل الرسول r، فطلبوا أن يجلوا بأنفسهم
من غير مال ولا سلاح فلم يرض أيضاً، بل قال: لا بدّ من النزول
والرضا بما يحكم عليهم خيراً كان أو شراً، فقالوا له:
أرسل لنا أبا لُبابة نستشيره، وكان أوسياً من حُلفاء بني قريظة،
له بينهم أولاد وأموال، فلما توجه إليهم استشاروه في النزول على حكم الرسول .
فقال لهم: انزلوا، وأومأ بيده إلى حلقه، يريد: أن الحكم الذبح، ويقول أبو لبابة
: لم أبارح موقفي حتى علمتُ أني خنت الله ورسوله،
فنزل من عندهم قاصداً المدينة خجلاً من مقابلة رسول الله ،
وربط نفسه في سارية من سواري المسجد حتى يقضي الله فيه أمره.
ولما سأل عنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما فعل، فقال:
أما لو جاءني لاستغفرت له،
أما وقد فعل ما فعل فنتركه حتى يقضي الله فيه.
ثم إن بني قريظة لما لم يروا بدّاً من النزول على حكم رسول الله فعلوا فأمر برجالهم فكُتِّفوا فجاءه رجال من الأوس وسألوه أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع حلفاء إخوانهم الخزرج، فقال لهم: ألا يرضيكم أن يحكم فيهم رجل منكم؟ فقالوا: نعم. واختاروا سيدهم سعد بن معاذ الذي كان جريحاً من السهم الذي أُصيب به في الخندق، وكان مقيماً بخيمة في المسجد معدّة لمعالجة الجرحى، فأرسل عليه الصلاة والسلام مَنْ يأتي به، فحملوه على حماره، والتفّ عليه جماعة من الأوس يقولون له: أحسن في مواليك، ألا ترى ما فعل ابن أُبَيّ في مواليه فقال لقد آن لسعد ألاّ تأخذه في الله لومةُ لائم ولما أقبل على الرسول وأصحابه وهم جلوس، قال عليه الصلاة والسلام: «قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه»، ففعلوا، وقالوا له: إن رسول الله قد ولاّك أمر مواليك لتحكم فيهم. وقال له الرسول : احكم فيهم يا سعد. فالتفت سعد للناحية التي ليس فيها رسول الله r وقال: عليكم عهدُ الله وميثاقه أن الحكم كما حكمت؟ فقالوا: نعم، فالتفت إلى الجهة التي فيها الرسول وقال: وعلى مَنْ هنا كذلك؟ وهو غاضٌّ طرفه إجلالاً، فقالوا: نعم، فقال: فإني أحكم أن تقتلوا الرجال، وتسبوا النساء والذرية فقال عليه الصلاة والسلام لقد حكمتَ فيهم بحكم الله يا سعد لأن هذا جزاء الخائن الغادر ثم أمر بتنفيذ الحكم فنفذ عليهم وجمعت غنائمهم فكانت ألفاً وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألفي رمح وخمسمائة ترس وحَجَفَةٍ ووجد أثاثاً كثيراً وآنية وأَجمالاً نواضِحَ وشياهاً فخمَّس ذلك كله مع النخل والسبي للراجل ثلث الفارس وأعطى النساء اللاتي يُمرضن الجرحى ووجد في الغنيمة جِرار خمر فأُريقت
زواج زينب بنت جحش
وفي هذا العام تزوج عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش وأمها أميمة عمته بعد أن طلقها مولاه زيد بن حارثة وكان من أمر زواجها لزيد أن الرسول خطبها له فتأففَ أهلها من ذلك لمكانها في الشرف العظيم فإن العرب كانوا يكرهون تزويج بناتهم من الموالي ويعتقدون أن لا كفؤ مِنْ سواهم لبناتهم وزيد وإن كان الرسول تبناه ولكن هذا لا يُلْحِقه بالأشراف
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً)
أخفى في نفسه ما أبداه الله فَبَتَّ الله حكمه بإبطال
هذه القاعدة وهي تحريم زوج المتبنَّى بقوله:
(فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُون
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ
مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً)
الحجاب
وفيه نزلت آية الحجاب وهو خاص بنساء رسول الله وكان عمر بن الخطاب قبل نزول آيته يحبّه ويذكره كثيراً ويودّ أن ينزل فيه قرآن وكان يقول لو أُطَاع فيكن ما رأتكنَّ عين فنزل
(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَآء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)
فقال بعضهم أَنُنْهى أن نكلم بنات عمّنا إلا من وراء حجاب لئن مات
محمد لأتزوجن عائشة فنزل بعد الآية المتقدمة
(وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن
بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً)
فرض الحج
وفي هذا العام على ما عليه الأكثرون فرض الله على الأمة الإسلامية حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ليجتمع المسلمون من جميع الأقطار فيتجهوا إلى الله ويبتهلوا إليه أن يؤيدهم بنصره ويُعينهم على اتباع دينه القويم وفي ذلك من تقوية الرابطة
واتحاد القلوب ما فيه للمسلمين الفائدة العظمى.
السَّنة السَّادسَة : سرية محمد بن مسلمة إلى ضرنية قبل نجد
غزوة بني لِحيان
بنو لحيان هم الذين قتلوا عاصم بن ثابت وإخوانه ولم يزل رسول الله حزيناً عليهم متشوقاً للقصاص من عدوهم حتى ربيع الأول من هذه السنة فأمر أصحابه بالتجهّز ولم يُظهر مقصده كما هي عادته عليه الصلاة والسلام في غالب الغزوات لتعمى الأخبار عن الأعداء وولى على المدينة ابن أُم مكتوم وسار في مائتي راكب معهم عشرون فرساً ولم يزل سائراً حتى مقتل أصحاب الرجيع فترحم عليهم ودعا لهم ولما سمع به بنو لحيان تفرقوا في الجبال فأقام عليه الصلاة والسلام بديارهم يومين يبعث السرايا فلا يجدون أحداً ثم أرسل بعضاً من أصحابه ليأتوا عُسْفَان حتى يعلم بهم أهل مكة فُيداخلهم الرعب فذهبوا إلى كُرَاع الغميم
ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وهو يقول
«آيبون تائبون لربنا حامدون أعوذ بالله من وعثاء السفر
وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال»
غزوة الغابة ذي قرد
كان للنبي عليه الصلاة والسلام عشرون لِقْحَة ترعى بالغابة فأغار عليها عُيينة بن حصن في أربعين فارساً واستلبها من راعيها فجاءت الأخبار رسول الله عليه الصلاة والسلام والذي بلَّغه هو سَلَمَةُ بن الأكوع أحد رماة الأنصار وكان عَدّاءً فأمره الرسول بأن يخرج في أثر القوم ليشغلهم بالنبل حتى يدركهم المسلمون فخرج يشتد في أثرهم حتى لحقهم وجعل يرميهم بالنبل فإذا وجّهت الخيل نحوه رجع هارباً فلا يُلحق فإذا دخلت الخيل بعض المضايق علا الجبل فرمى عليها الحجارة حتى ألقوا كثيراً مما بأيديهم من الرماح والأبراد ليخفّفوا عن أنفسهم حتى لا يلحقهم الجيش ولم يزل سلمة على ذلك حتى تلاحق به الجيش فإن الرسول دعا أصحابه فأجابوه وأول من انتهى إليه المقداد بن عمرو فقال له اخرج في طلب القوم حتى ألحقك وأعطاه اللواء فخرج وتبعته الفرسان حتى أدركوا أواخر العدو فحصلت بينهم مناوشات قتل فيها مسلم ومشركان واستنقذ المسلمون غالبَ اللقاح وهرب أوائل القوم بالبقية وطلب سلمة بن الأكوع من رسول الله أن يرسله مع جماعة في أثر القوم ليأخذهم على غرّة وهم نازلون على أحد مياههم فقال له عليه الصلاة والسلام
«مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ»
ثم رجع بعد خمس ليال.
سرية عكاشة بن محصن إلى بني أسد قبل نجد
كان بنو أسد الذين مَرّ ذكرهم كثيراً ما يؤذون مَنْ يمرّ بهم من المسلمين فأرسل لهم عليه الصلاة والسلام عُكَّاشة بن مِحْصَن في أربعين راكباً ليُغير عليهم ولما قارب بلادهم علموا به فهربوا وهناك وجدوا رجلاً نائماً فأمّنوه ليدلّهم على نَعَم القوم فدلّهم عليها فاستاقوها وكانت مائة بعير ثم قدموا المدينة ولم يلقوا كيداً.
سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القضة
وفي ربيع الأول بلغه عليه الصلاة والسلام أن من بذي القَصّة يريدون الإغارة على نَعَم المسلمين التي ترعى بالهيفاء، فأرسل لهم محمد بن مسلمة في عشرة من المسلمين فبلغ ديارهم ليلاً، وقد كَمَن المشركون حينما علموا بهم، فنام المسلمون، ولم يشعروا إلا والنبل قد خالطهم، فتواثبوا على أسلحتهم ولكن تغلب عليهم الأعداء فقتلوهم، غير محمد بن مسلمة تركوه لظنهم أنه قُتِل، فعاد إلى المدينة، وأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام.
سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم في الجهوم
عاكَسَ بنو سُليم الذين كانوا من المتحزبين في غزوة الخندق المسلمين في سيرهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام زيدَ بن حارثة في ربيع الآخر ليُغير عليهم في الجَمُوم فلما بلغوا ديارهم وجدوهم تفرقوا، ووجدوا هناك امرأة من مُزينة دلّتهم على منازل بني سُليم، أصابوا بها نَعَماً وشاءً، ووجدوا رجالاً أسروهم، وفيهم زوج تلك المرأة، فرجعوا بذلك إلى المدينة، فوهب الرسول لهذه المرأة نفسها وزوجها.
سرية زيد بن حارثة إلى العيص
بلغ الرسول أن عِيراً لقريش أقبلت من الشام تريد مكة فأرسل لها زيد بن حارثة في مائة وسبعين راكباً ليعترضها، فأخذها وما فيها وأسر مَن معها من الرجال، وفيهم أبو العاص بن الربيع، زوج زينب بنت رسول الله ، وكان من رجال مكة المعدودين تجارة ومالاً وأمانةً، فاستجار بزوجه زينب فأجارته، ونادت بذلك في مجمع قريش، فقال عليه الصلاة والسلام: المسلمون يد واحدة، يُجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجرتِ وهذا أبلغ ما قيل في المساواة بين أفراد المسلمين وردّ عليه الرسول ماله بأسره لا يفقد منه شيء، فذهب إلى مكة. فأدى لكل ذي حقَ حقَّه، ورجع إلى المدينة مسلماً، فردّ عليه رسول الله زوجه.
سرية زيد بن حارثة إلى بني ثعلبة بالطرف
وفي جمادى الآخرة أرسل عليه الصلاة والسلام زيدَ بن حارثة في خمسة عشر رجلاً، للإغارة على بني ثعلبة، الذين قتلوا أصحاب محمد بن مسلمة وهم مقيمون بالطَّرَفِ. فتوجهت السرية لذلك، ولما رآهم الأعداء ظنوهم طليعة لجيش رسول الله ، فهربوا وتركوا نَعَمهم وشاءهم، فاستاقها المسلمون ورجعوا إلى المدينة بعد أربع ليالٍ.
سرية زيد بن حارثة إلى بني فرارة بوادي القرى
وفي رجب أرسل عليه الصلاة والسلام زيدَ بن حارثة، ليُغيرَ على بني فَزَارة لأنهم تعرضوا لزيد وهو راجع بتجارة من الشام، فسلبوا ما معه، وكادوا يقتلونه، فلما جاء المدينة، وأخبر الرسول الخبر، أرسله مع رجاله للقصاص من فَزارة المقيمين في وادي القُرى. فساروا حتى دهموا العدو وأحاطوا بهم، وقتلوا منهم جمعاً كثيراً، وأخذوا امرأة من كبارهم أسيرة، فاستوهبها عليه الصلاة والسلام ممّن أسرها وفدى بها أسيراً كان بمكة.
سرية عبد الرحمن بن عوف إلى بني كلب بدومة الجندل
وفي شعبان أرسل عليه الصلاة والسلام عبد الرحمن بن عوف مع سبعمائة من الصحابة لغزو بني كلب في دُومة الجَنْدل، وقد وصّاهم عليه الصلاة والسلام قبل السفر بقوله: اغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، ولا تَغُلُّوا ولا تغدروا ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله وسيرة نبيّه فيكم ثم أعطاه اللواء فساروا على بركة الله حتى حلّوا بديار العدو فدعوهم إلى الإسلام ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أسلم رئيس القوم الأَصْبَغ بن عمرو النصراني، وأسلم معه جمع من قومه، وبقي آخرون راضين بإعطاء الجزية، فتزوج عبد الرحمن بنت رئيسهم، كما أمره بذلك عليه الصلاة والسلام، وهذه أقرب واسطة لتمكين صلات الودّ بين الأمراء بحيث يهمّ كلاًّ ما يهمّ الآخر، فنِعما هي سياسة السلم والمحبة.
سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بفدك
وفي شعبان أرسل عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب في مائة لغزو بني سعد بن بكر بفَدَك لأنه بلغه أنهم يجمعون الجيوش لمساعدة يهود خيبر على حرب المسلمين مقابل تمر يُعطَونه من تمر خيبر، فسارت السرية، وبينما هم سائرون التقوا بجاسوس للعدوّ، وكانوا قد أرسلوه إلى خيبر ليعقد المعاهدة مع يهودها، فطلبوا منه أن يدلّهم على القوم وهو آمنٌ، فدلهم على موضعهم، فاستاق منه المسلمون نَعَم القوم، وهرب الرعاةُ، فحذَّروا قومهم، فدَاخَلَهم الرعب، وتفرقوا، فرجع المسلمون ومعهم خمسمائة بَعير وألفا شاةٍ،
وردّ الله كيدَ المشركين فلم يمدُّوا اليهود بشيء.
سرية عبد الله بن عتيك قتل أبي رافع
وكان المحرّك لأهل خيبر على حرب المسلمين، وهو سيدهم، أبو رافع سَلاّم بن أبي الحُقيق الملقب بتاجر أهل الحجاز، لما كان له من المهارة في التجارة، وكان ذا ثروة طائلة يُقَلِّبُ بها قلوبَ اليهود كما يريد، فانتدب له عليه الصلاة والسلام مَنْ يقتله،
فأجاب لذلك خمسة رجال من الخزرج رئيسهم عبد الله بن
عَتِيْك، ليكون لهم مثل أجر إخوانهم من الأوس الذين قتلوا كعبَ بن الأشرف، فإن من نِعم الله على رسوله أن كان الأوس والخزرج يتفاخرون بما يفعلونه من تنفيذ رغبات رسول الله r، فلا تعمل الأوسُ عملاً إلا اجتهد الخزرجُ في مثله، فأمرهم الرسول
بذلك بعد أن وصَّاهم ألاّ يقتلوا وليداً ولا امرأة.
سرية عبد الله بن رواحة إلى خبير لقتل أسير بن رزام
ولما قُتل كعبٌ ولّى اليهود مكانه أُسَير بن رِزام، فأرسل عليه الصلاة والسلام مَنْ يستعلم له خبره فجاءته الأخبار بأنه قال لقومه: سأصنع بمحمد ما لم يصنعه أحدٌ قبلي، أسير إلى غطفان فأجمعهم لحربه، وسعى في ذلك. فأرسل عليه الصلاة والسلام عبد الله بن رواحة الخزرجي في ثلاثين من الأنصار لاستمالته، فخرجوا حتى قدموا خيبر، وقالوا لأسير: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له؟ قال: نعم، ولي مثل ذلك، فأجابوه، ثم عرضوا عليه أن يقدم على رسول الله ويترك ما عزم عليه من الحرب فيولِّيه الرسول على خيبر، فيعيش أهلها بسلام، فأجاب إلى ذلك وخرج في ثلاثين يهودياً كلُّ يهودي رديفٌ لمسلم، وبينما هم في الطريق ندم أُسَير على مجيئه، وأراد التخلّص مما فعل بالغدر بمن أمَّنوه فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن رواحة، فقال له: أغدراً يا عدو الله ثم نزل وضربه بالسيف فأطاح عامّة فخذه، ولم يلبث أن هلك، فقام المسلمون على مَن معه من اليهود فقتلوهم عن آخرهم. وهذه عاقبة الغدر.
سرية عمرو بن أمية الضمري لقتل أبي سفيان
جلس أبو سفيان بن حرب يوماً في نادي قومه، فقال: ألا رجل يذهب لمحمد فيقتله غدراً فإنه يمشي بالأسواق لنستريحَ منه؟ فتقدم له رجل وتعهد له بما أراد، فأعطاه راحلةً ونفقةً وجهّزه لذلك. فخرج الرجل حتى وصل إلى المدينة صُبْحَ سادسةٍ من خروجه، فسأل عن رسول الله فَدُلَّ عليه وهو بمسجد بني عبد الأشهل،
فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال:
«إن هذا الرجل ليريد غدراً، وإن الله مانعي منه»
فذهب لينحني على الرسول ، فجذبه أُسيد بن حضير من إزاره، وهنالك سقط الخنجر، فندم الرجلُ على فعلته، ثم سأله عليه الصلاة والسلام عن سبب عمله فصدقه بعد أن توثّق من حفظ دمه، فخلّى عليه الصلاة والسلام سبيله. فقال الرجل: والله يا محمد ما كنت أخافُ الرجال، فما هو إلا أَنْ رأيتك فذهب عقلي وضعفت نفسي، ثم إنك اطّلعت على ما هَممتُ به مما لم يعلمه أحد، فعرفتُ أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبي سفيان حزبُ الشيطان، ثم أسلم.
غزوة الحُدَيْبيَة
رأى عليه الصلاة والسلام في نومه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلِّقين رؤوسَهم ومقصِّرين، فأخبر المسلمين أنه يريد العمرة، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة ليكونوا معه، حذراً من أن تردّهم قريش عن عمرتهم، ولكن هؤلاء الأعراب أبطؤوا عليه لأنهم ظنوا ألاّ ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً، وتخلَّصوا بأن قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا، فخرج عليه الصلاة والسلام بمن معه من المهاجرين والأنصار تبلغ عدّتهم ألفاً وخمسمائة، وولى على المدينة ابن أُم مكتوم، وأخرج معه زوجه أم سلمة، وأخرج الهَدْيَ ليعلم الناس أنه لم يأت محارباً، ولم يكن مع أصحابه شيء من السلاح إلا السيوف في القُرُب، لأن الرسول لم يرضَ أن يحملوا السيوف مجردة وهم معتمرون، ثم سار الجيش حتى وصل عُسْفان فجاءه عينه يخبره أن قريشاً أجمعت رأيها أن يصدّوا المسلمين عن مكة وألاّ يدخلوها عليهم عَنْوةً أبداً. وتجهزوا للحرب، وأعدّوا خالد بن الوليد في مائتي فارس طليعة لهم ليصدّوا المسلمين عن التقدم، فقال عليه الصلاة والسلام: هل من رجل يأخذ بنا على غير طريقهم فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله. فسار بهم في طريق وعرة، ثم خرج بهم إلى مستوٍ سهل يملك مكة من أسفلها، فلما رأى خالد ما فعل المسلمون رجع إلى قريش وأخبرهم الخبر. ولما كان عليه الصلاة والسلام بثنيّة المُرَار بركت ناقته. فزجروها فلم تقم،
فقالوا: خلأَتِ القَصْوَاء،
فقال عليه الصلاة والسلام:
«ما خلأت وما ذلك لها بخُلق، ولكن حبسها حابسُ الفيل.
والذي نفسُ محمد بيده لا تدعوني قريش لِخَصْلَة
فيها تعظيمُ حرمات الله إلا أجبتهم إليها»
مع أن المسلمين لو قاتلوا أعداءهم في مثل هذا الوقت لظفروا بهم، ولكن كَفَّ الله أيدي المسلمين عن قريش، وكَفَّ أيدي قريش عن المسلمين كيلا تُنتهك حُرمات البيت الذي أراد الله أن يكون حرماً آمناً، ويوطد المسلمون من جميع الأقطار دعائمَ أخوتهم فيه. ثم أمرهم عليه الصلاة والسلام بالنزول أقصى الحديبية وهناك جاء بُدَيلبن وَرْقَاء الخُزاعي رسولاً من قريش، يسأل عن سبب مجيء المسلمين، فأخبره عليه الصلاة والسلام بمقصده، فلما رجع بُديل إلى قريش وأخبرهم بذلك لم يثقوا به لأنه من خزاعة الموالية لرسول الله r كما كانت كذلك لأجداده وقالوا: أيريد محمدٌ أن يدخل علينا في جنوده معتمراً تسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة، وبيننا وبينهم من الحرب ما بيننا؟ والله لا كان هذا أبداً ومنا عَيْن تَطْرف. ثم أرسلوا حُلَيْسَ بن علقمة سَيِّد الأحابيش وهم حلفاء قريش
فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال هذا مِنْ قوم يعظّمون الهدْي،
ابعثوه في وجهه حتى يراه، ففعلوا، واستقبله الناس يُلَبُّون،
فلما رأى ذلك حُلَيْس رجع، وقال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا.
أتحجُّ لخم وجذام وحمير، ويُمنع
عن البيت ابن عبد المطلب؟ هلكْت قريش، وربِّ البيت إن القوم أَتَوا معتمرين.فلما سمعت قريش منه ذلك قالوا له: اجلسْ إنما أنت أعرابي لا علم لك بالمكايد، ثم أرسلوا عُرْوَةَ بن مسعود الثقفي سيد أهل الطائف فتوجه إلى رسول الله r، وقال: يا محمد قد جمعتَ أوباشَ الناس، ثم جئت إلى أهلك وعشيرتك لِتَفُضَّها بهم إنها قريش قد خرجت تعاهد الله ألا تدخلها عليهم عَنْوة أبداً. وايمُ الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك. فنال منه أبو بكر وقال نحن ننكشف عنه ويحك وكان عروة يتكلم وهو يمسّ لحية رسول الله فكان المغيرة بن شعبة يقرع يده إذا أراد ذلك ثم رجع عروة وقد رأى ما يصنع بالرسول أصحابه لا يتوضأ وضُوءاً إلا كادوا يقتتلون عليه يتمسحون به وإذا تكلموا خَفَضوا أصواتهم عنده، ولا يُحِدُّون النظر إليه فقال والله يا معشر قريش جئتُ كسرى في ملكه وقيصرَ في عظمته فما رأيتُ مَلِكاً في قومه مثل محمد في أصحابه ولقد رأيت قوماً لا يُسلمونه لشيء أبداً، فانظروا رأيكم، فإنه عرض عليكم رشداً فاقبلوا ما عرض عليكم فإني لكم ناصح مع أني أخاف ألا تنصروا عليه
فقالت قريش لا تتكلم بهذا ولكن نردّه عامنا ويرجع إلى قابل.
بيعة الرضوان
ودعا الناسَ للبيعة على القتال فبايعوه تحت شجرة هناك سميت بعد بشجرة الرضوان على الموت فشاعَ أمر هذه البيعة في قريش فداخلهم منها رعب عظيم، وكانوا قد أرسلوا خمسين رجلاً عليهم مكرزُ بن حفص ليطوفوا بعسكر المسلمين لعلهم يصيبون منهم غِرَّة، فأسرهم حارس الجيش محمد بن مسلمة وهرب رئيسهم، ولما علمت بذلك قريش جاء جمع منهم وابتدؤوا يناوشون المسلمين حتى أسر منهم اثنا عشر رجلاً وقُتل من المسلمين واحد.
صلح الحُدَيبية
وعند ذلك خافت قريش وأرسلت سهيل بنَ عَمْرو للمكالمة في الصلح، فلما جاء قال: يا محمد إن الذي حصل ليس من رأي عقلائنا بل شيء قام به السفهاء منّا فابعث بمن أسرت، فقال: حتى ترسلوا مَنْ عندكم. وعندئذٍ أرسلوا عثمان والعشرة الذين معه، ثم عرض سهيل الشروط التي تريدها قريش وهي:
وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنوات.
من جاء المسلمين من قريش يردّونه،
ومن جاء قريشاً من المسلمين لا يلزمون بردّه.
أن يرجع النبي من غير عمرة هذا العام،
ثم يأتي العام المقبل فيدخلها بأصحابه بعد أن تخرج منها قريش،
فيقيم بها ثلاثة أيام ليس مع أصحابه من السلاح إلا السيف
في القراب والقوس من أراد أن يدخل في عهد محمد من غير
قريش دخل فيه ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه
فقبل عليه الصلاة والسلام كل هذه الشروط
أما المسلمون فداخلهم منها أمر عظيم
وقالوا سبحان الله كيف نَرُدُّ إليهم من جاءنا مسلماً
ولا يردّون مَنْ جاءهم مُرْتداً
فقال عليه الصلاة والسلام إنه من ذهب منّا إليهم فأبعده الله
ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً
أما الأمر الثالث وهو صدُّ المسلمين عن الطواف بالبيت
فكان أشد تأثيراً في قلوبهم لأن الرسول أخبرهم أنه رأى في منامه
أنهم دخلوا البيت آمنين وقد سأل عمر أبا بكر في ذلك فقال :
وهل ذكر أنه في هذا العام.
السَّنَة السَّابعة : غزوة خَيبر
وفي محرم السنة السابعة أمر عليه الصلاة والسلام بالتجهّز لغزو يهود خيبر الذين كانوا أعظم مُهَيِّجٍ للأحزاب ضد رسول الله في غزوة الخندق والذين لا يزالون مجتهدين في محالفة الأعراب ضد رسول الله وقد استنفر رسولُ الله لذلك مَنْ حوله من الأعراب الذين كانوا معه بالحديبية، وجاء المخلَّفون عنها ليؤذَن لهم،
فقال عليه الصلاة والسلام:
لا تخرجوا معي إلا رغبة في الجهاد، أما الغنيمة فلا أعطيكم منها شيئاً»،
وأمر منادياً ينادي بذلك، ثم خرج عليه الصلاة والسلام بعد أن ولَّى على المدينة سِبَاعَ بن عُرْفُطَةَ الغفاري. وكان معه من أزواجه أُمّ سلمة، ولما وصل جيش المسلمين إلى خيبر التي تبعد عن المدينة نحو مائة ميل من الشمال الغربي، رفعوا أصواتهم بالتكبير والدعاء،
فقال عليه الصلاة والسلام:
ارفقوا بأنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً،
إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم
وكانت حصون خيبر ثلاثة منفصلاً بعضها عن بعض،
وهي: حصون النَّطَاة، وحصون الكَتيبة.
والأولى ثلاثة: حصن ناعم، وحصن الصَّعْب، وحصن قُلَّةٍ.
والثانية حصنان: حصن أُبيّ، وحسن البريء.
والثالثة ثلاثة حصون: حصن القَمُوص، وحصن الوَطِيْح، وحصن السُّلاِلم.
فبدأ عليه الصلاة والسلام بحصون النَّطاة،
وعسكر المسلمون شرقيها بعيداً عن مدى النبل،
وأمر عليه الصلاة والسلام أن يقطع نخلهم ليرهبهم حتى يسلموا،
فقطع المسلمون نحو أربعمائة نخلة.
ولما رأى عليه الصلاة والسلام تصميم اليهود على الحرب نهى عن القطع،
ثم ابتدأ القتال مع حصن ناعم بالمراماة،
وكان لواء المسلمين بيد أحد المهاجرين فلم يصنع في ذلك اليوم شيئاً،
وفيه مات محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة،
وصار عليه الصلاة والسلام يغدو كل يوم مع بعض الجيش للمناوشة، ويخلّف على العسكر أحد المسلمين، حتى إذا كانوا في الليلة السادسة، ظفر حارس الجيش، وهو عمر بن الخطاب، بيهودي خارج في جوف الليل، فأتى به رسول الله عليه الصلاة والسلام،
ولما أدرك الرجل الرعب قال: إن أمَّنْتُموني أدّلكم على أمر فيه نجاحكم.
فقالوا: دُلَّنَا فقد أَمَّنَّاك، فقال: إن أهل هذا الحصن أدركهم الملال والتعب،
وقد تركتهم يبعثون بأولادهم إلى حصن الشَّق، وسيخرجون لقتالكم غداً،
فإذا فتح عليكم هذا الحصن غداً فإني أدلكم على بيت
فيه منجنيق ودبابات ودروع وسيوف،
يسهل عليكم بها فتح بقية الحصون، فإنكم تنصبون المنجنيق،
ويدخل الرجال تحت الدبابات، فينقبون الحصن فتفتحه من يومك،
فقال عليه الصلاة والسلام لمحمد بن مسلمة:
سأُعطي الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّانه»
فبات المهاجرون والأنصار كلهم يتمنّونها، حتى قال عمر بن الخطاب:
ما تمنيت الإمارة إلا ليلتئذ.فلما كان الغد سأل عليه الصلاة والسلام
عن علي بن أبي طالب فقيل له: إنه أرمد، فأرسل مَنْ يأتيه به،
ولما جاء تَفَلَ في عينيه فشفاهما الله كأن لم يكن بهما شيء،
ثم أعطاه الراية، فتوجه مع المسلمين للقتال،
وهناك وجدوا اليهود متجهزين، فخرج يهودي يطلب البِرَاز فقتله عليٌّ،
ثم خرج مَرْحَبٌ، وهو أشجع القوم، فألحقه برفيقه،
فخرج أخوه ياسر، فقتله الزبير بن العوّام،
ثم حملَ المسلمون على اليهود حتى كشفوهم عن مواقفهم،
وتبعوهم حتى دخلوا الحصن بالقوة وانهزم الأعداء إلى الحصن الذي يليه
وهو حصن الصَّعْبِ، وغنم المسلمون من حصن ناعم كثيراً من الخبز والتمر،
ثم تتبعوا اليهود إلى حصن الصَّعْب، فقاتل عنه اليهود قتالاً شديداً حتى
رد عنه المسلمون، ولكن ثبت الحباب بن المنذر ومن معه
وقاتلوا قتالاً شديداً حتى هزموا اليهود،
فتبعوهم حتى افتتحوا عليهم الحصن،
فوجدوا فيه غنائم كثيرة من الطعام
فأمر عليه الصلاة والسلام منادياً يقول:
«كلوا واعلفوا دوابكم ولا تأخذوا شيئاً.
ثم إن الذين انهزموا من هذا الحصن ساروا إلى حسن قُلَّةٍ، فتبعهم المسلمون،
وحاصروهم ثلاثة أيام حتى استصعب عليهم فتحه،
وفي اليوم الرابع دلَّهم يهودي على جداول الماء التي يستقي منها اليهود،
فمنعوها عنهم، فخرجوا،
وقاتلوا قتالاً شديداً انتهى بهزيمتهم إلى حصون الشَّقِّ.
زواج السيده صفية
يتبع
رد: سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام
زواج صفية
وبعد تمام الظفر والنصر تزوج عليه الصلاة والسلام صفية بنت حييّ سيد بني النضير
وأصدقها عِتْقَهَا، وقد أسلمت، فشرفت بأُمومة المؤمنين.
النهي عن نكاح المتعة
ونهى عليه الصلاة والسلام وهو بخيبر عن نكاح المتعة،
وهي: النكاح لأجلٍ وقد كان حلالاً في الجاهلية،
واستعمل في بدء الإسلام حتى حرّمه الشرع في هذه السنة،
ونهى كذلك عن أكل لحوم الحُمُر الأهلية فأكفأ المسلمون
قدورها بعد أن نضجت ولم يطعموها.
رجوع مهاجري الحبشة
وحين رجوع المسلمين من خيبر قدِم من الحبشة جعفر بن أبي طالب ومعه الأشعريون أبو موسى وقومه، بعد أن أقاموا فيها نحواً من عشر سنين آمنين مطمئنين، وفرح عليه الصلاة والسلام بمقدمهم فرحاً عظيماً، وأعطى للأشعريين من مغانم الحصون المفتوحة صلحاً، وكان مع جعفر أُمُّ حَبيبة بنت أبي سُفيان أُمّ المؤمنين. وقدم في هذا الوقت على النبي عليه الصلاة والسلام الدوسيون إخوان أبي هريرة وهو معهم، فأعطاهم أيضاً رسول الله .
فتح وادي القُرى
ثم دعا عليه الصلاة والسلام يهودَ وادي القرى إلى الاستسلام فأبوا وقاتلوا، فقاتلهم المسلمون، وأصابوا منهم أحد عشر رجلاً، وغنموا منهم مغانم كثيرة، خَمَّسها عليه الصلاة والسلام، وترك الأرض في أيدي أهلها يزرعونها بشطر ما يُخرجون منها، وكذلك صنع بأرض خيبر، وكان يرسل إليهم عبد الله بن رواحة لتقدير الثمر، وكان تقديره شديداً عليهم، فأرادوا أن يرشوه، فقال لهم: يا أعداء الله تعطوني السُّحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحبّ الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إيّاكم وحبيّ إياه على ألاّ أعدل.
هذا وبانقياد جميع اليهود المجاورين للمدينة ارتاح المسلمون من شر عدو كان يتربص بهم الدوائر، مهما كان بين الفريقين من العهود والمواثيق. ورجع المسلمون مؤيدين ظافرين.
إسلام خالد ورفيقيه عمرو بن العاص وعثمان بن طلحة
وأعقب هذه الغزوة وهذا الفتح المبين إسلام ثلاثة طالما كانت لهم اليد الطولى في قيادة الجيوش لحرب المسلمين وهم: خالد بن الوليد المخزومي، وعمرو بن العاص السهمي، وعثمان بن طلحة العبدري، فسُرّ بهم عليه الصلاة والسلام سروراً عظيماً، وقال لخالد: الحمد لله الذي هداك، قد كنتُ أرى لك عقلاً رجوت ألاّ يسلمك إلا إلى خير فقال: يا رسول الله ادعُ الله لي أن يغفر تلك المواطن التي كنت أشهدها عليك، فقال عليه الصلاة والسلام: الإسلام يقطع ما قبله.
سرية عمر بن الخطاب إلى هوازن بتزبة
وفي شعبان بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعاً من هوازن بتُربَة يظهرون العداوة للمسلمين فأرسل لهم عمر بن الخطاب في ثلاثين رجلاً فسار إليهم. ولما
بلغهم الخبر تفرقوا فلم يجد بها عمر أحداً، فرجع.
سرية بشير بن سعد إلى مزة بفدك
ثم أرسل بشير بن سعد الأنصاري لقتال بني مرّة بناحية فَدَاك، فلما ورد بلادهم لم يرَ منهم أحداً، فأخذ نَعَمَهم وانحدر إلى المدينة، أما القوم فكانوا في الوادي، فجاءهم الصريخ فأدركوا بشيراً ليلاً وهو راجع فتراموا بالنبل، ولما أصبح اقتتل الفريقان قتالاً شديداً حتى قُتِل غالبُ المسلمين، وجُرِحَ بشير جرحاً شديداً حتى ظن أنه مات، ولما انصرف عنه العدو تحامل حتى جاء إلى رسول الله وأخبره الخبر.
سرية غالب بن عبد الله إلى أهل المبفعة بنجد
وفي رمضان أرسل عليه الصلاة والسلام غالب بن عبد الله الليثي إلى أهل المِيْفَعَة في مائة وثلاثين رجلاً، فساروا حتى هجموا على القوم فقتلوا بعضاً وأسروا آخرين، وفي أثناء الحرب طارد أُسامة بن زيد رجلاً من المشركين، ولما رأى المشرك الموت في يد أُسامة تشهَّد فظن أُسامة أن عدوه إنما قال ذلك تخلصاً فقتله ولما رجع المسلمون إلى المدينة وأُخبر رسول الله r بفعلة أُسامة قال أقتلته بعد أن قال لا إله إلاّ الله فكيف تصنع بلا إله إلاّ الله قال يا رسول الله إنما قالها متعوذاً من القتل قال عليه الصلاة والسلام فهلاّ شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب فقال يا رسول الله استغفر لي قال عليه الصلاة والسلام فكيف بلا إله إلاّ الله فما زال يكررها حتى تمنى أُسامة أنه لم يسلم قبل ذلك اليوم
وأنزل الله:
(وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً)
ثم أمر عليه الصلاة والسلام أُسامة أن يعتق رقبة كفارة لأنه قتل خطأ
سرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار
وفي شوال بلغه عليه الصلاة والسلام أن عُيينة بن حصن واعدَ جماعة من غطفان كانوا مقيمين قريباً من خيبر بأرض اسمها يُمْن وجُبَار للإغارة على المدينة، فأرسل لهم بشيربن سعد في ثلاثمائة رجل، فساروا إليهم يكمنون النهار، ويسيرون الليل حتى أتوا محلتهم، فأصابوا نَعَماً كثيرة، وتفرق الرِّعاء فأخبروا قومهم ففزعوا ولحقوا بعُلْيا بلادهم، ولم يظفر المسلمون إلا برجلين أسلما، ثم رجعوا بالغنائم إلى المدينة.
زواج ميمونة
وتزوج وهو بمكة ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج عمه حمزةبن عبد المطلب شهيد أُحُد، وخالة عبد الله بن العباس وهي آخر نسائه زواجاً
ولم يدخل
بها إلا بعد الخروج من مكة حيث كان بِسَرِف. ولما خرج عليه الصلاة والسلام أمر الذين كان تركهم لحراسة الخَيل بالذهاب ليطوفوا ففعلوا، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة فرحاً مسروراً بما حَبَاه الله من تصديق رؤياه.
السَّنَة الثامِنَة : سرية غالب بن عبد الله إلى بني الملوح
وفي صَفَر أرسل عليه الصلاة والسلام غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوِّح، وهم قوم من العرب يسكنون بالكَدِيد فسار القوم حتى إذا كانوا بقُدَيدٍ التقوا بالحارث بن مالك الليثي المعروف بابن البرصاء، وكان خصماً لدوداً فأسروه، فقال لهم: ما جئت إلا للإسلام، فقالوا له: إن تكن مسلماً لن يضرك رباط ليلة وإلا استوثقنا منك، ثم ساروا حتى وصلوا محلة بني الملوّح فاستاقوا النَّعَم والشاء، وخرج الصريخ إلى القوم فجاءهم ما لا قبل لهم به، ولكن منّ الله على المسلمين، فأرسل سيلاً شديداً حالَ بينهم وبين عدوهم حتى صار المشركون يرون نَعَمَهم تُساق وهم لا يقدرون على ردّها.
سرية غالب بن عبد الله إلى بني مزة (بفدك)
ولما رجع غالب إلى المدينة ظافراً أرسله عليه الصلاة والسلام في مائتي رجل ليقتصّ من بني مرّة بفدك وهم الذين أصابوا سرية بشير بن سعد فساروا حتى إذا كانوا قريباً من القوم خطب غالب فيمن معه، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد فإني أُوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأن تطيعوني ولا تخالفوا لي أمراً فإنه لا رأي لمن لا يُطاع. ثم آخى بين الجند، فقال: يا فلان أنت وفلان، ويا فلان أنت وفلان، لا يفارق أحد منكم زميله، وإيّاكم أن يرجع الرجل منكم فأقولَ له: أين صاحبك؟ فيقول: لا أدري، فإذا كبَّرت فكبّروا، فلما أحاطوا بالعدو، وكبّر كبّروا، وجرّدوا السيوف فلم يفلت من عدوهم أحد، واستاقوا نَعَمَهُمْ،
فكان لكل واحد من الغزاة عشرة أبعِرة.
سرية كعب بن عمير إلى ذات أطلاح
وفي ربيع الأول أرسل عليه الصلاة والسلام كعب بن عُمير الغفاري إلى ذات أطلاح من أرض الشام في خمسة عشر رجلاً، فوجدوا جمعاً كثيراً فدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا وقاتلوا، وكانوا أكثر عدداً، فاستشهد المسلمون عن آخرهم إلا رئيسهم كعببن عمير فإنه نجا، وأتى بالخبر إلى رسول الله r، فَشَقَّ عليه، وأراد أن يبعث إليهم من يقتص منهم،
فبلغه أنهم تحوَّلوا من منزلهم فعدل عن ذلك.
غزوة مُؤْتَة
جهَّز عليه الصلاة والسلام في جمادى الأولى جيشاً للقصاص ممن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسوله إلى أمير بُصرى، وأمَّر عليهم زيدَ بن حارثة، وقال لهم: إن أُصيب فالأمير جعفر بن أبي طالب فإن أُصيب فعبد الله بن رواحة. وكان عدّة الجيش ثلاثة آلاف فساروا وشيَّعهم عليه الصلاة والسلام، وكان فيما وصّاهم به:
«اغزوا باسم الله فقاتلوا عدوّ الله وعدوّكم بالشام، وستجدون
فيها رجالاً في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة
ولا صغيراً ولا بصيراً فانياً، ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناءً»
. ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا مُؤْتة مقتل الحارث بن عمير، وهناك وجدوا الروم قد جمعوا لهم جمعاً عظيماً، منهم ومن العرب المتنصِّرة. فتفاوض رجال الجيش فيما يفعلونه: أيرسلون لرسول الله يطلبون منه مَدداً أم يقدمون على الحرب؟ فقال عبد الله بن رواحة: يا قوم والله إن الذي تكرهون هو ما خرجتم له، خرجتم تطلبون الشهادة ونحن ما نقاتل بعدد ولا بقوة ولا بكثرة، ما نقاتل إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما الظهور وإما الشهادة، فقال الناس: صدق والله ابن رواحة. ومضوا للقتال، فلقوا هذه الجموع المتكاثرة، فقاتل زيد بن حارثة t حتى استشهد، فأخذ الراية جعفرُ بن أبي طالب وهو يقول: يا حبَّذا الجَنَّةُ واقْتِرَابُها طيِّبَةٌ وباردٌ شَرابُها والرومُ روم قد دَنا عذابُها كافرةٌ بعيدةٌ أنسابُها عليَّ إذ لاقيتُها ضرابُها ولم يزل يقاتل حتى استشهد t، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة فتقدم ثم تردد بعض التردّد، فقال يخاطب نفسه: أقسمتُ يا نفسُ لتنزِلنَّه طائعةً أو لَتكْرَهِنَّهْ إن أجلبَ الناسُ وشدّوا الرَّنَّهما لي أراكِ تكرهين الجنّة قد طال ما قد كنتِ مُطمئنَّه هل أنتِ إلا نُطفة في شَنَّه؟ ثم اقتحم بفرسه المعمعة، ولم يزل يقاتل t حتى استشهد، فهمَّ بعض المسلمين بالرجوع إلى الوراء، فقال لهم عقبة بن عامر: يا قوم يُقتل الإنسان مقبلاً خير من أن يقتل مدبراً، فتراجعوا واتفقوا على تأمير الشهم الباسل خالد بن الوليد وبهمَّته ومَهارته الحربية حمى هذا الجيش من الضياع إذ ما تفعل ثلاثة آلاف بمائة وخمسين ألفاً فإنه لما أخذ الراية قاتل يومه قتالاً شديدا في غده خالف ترتيب العسكر فجعل الساقة مقدمة والمقدمة ساقة والميمنة ميسرة والميسرة ميمنة فظنَّ الروم أن المَدَد جاء للمسلمين فرعبوا.ثم أخذ خالد الجيش وصار يرجع إلى الوراء حتى انحاز إلى مُؤتة، ثم مكث يناوش الأعداء سبعة أيام ثم تحاجز الفريقان لأن الكفار ظنوا أن الأمداد تتوالى للمسلمين، وخافوا أن يجرّوهم إلى وسط الصحارى حيث لا يمكنهم التخلّص وبذلك انقطع القتال، وقد نعى النبي r زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: أخذ الراية زيد فأُصيب، ثم أخذها جعفر فأُصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب
وكانت عينا رسول الله تذرفان ثم قال حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم وجاءه رجل فقال: يا رسول الله إن نساء جعفر يبكين، فأمره أن ينهاهنّ، فذهب الرجل ثم أتى فقالت: قد نهيتهنّ فلم يُطِعْنَ، فأمره فذهب ثانياً، ثم جاء فقال:
والله لقد غلبننا، فقال له عليه الصلاة والسلام: احْثُ في أفواههنّ التراب.
ولما أقبل الجيش إلى المدينة قابلهم المسلمون يقولون لهم: يا فُرّار، فقال عليه الصلاة والسلام: بل هم الكُرَّار. ظن المقيمون بالمدينة أن انحياز خالد بالجيش هزيمة، ولكن رسول الله أراهم أن ذلك من مكايد الحرب،
وأثنى على خالد في مهارته.
سرية عمرو بن العاص إلى السلاسل
وفي جمادى الآخرة بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعاً من قضاعة يتجمعون في ديارهم وراء وادي القُرى ليُغيروا على المدينة، فأرسل لهم عمرو بن العاص في ثلاثمائة رجل من سَراة المهاجرين والأنصار، ثم أمدّه بأبي عبيدة بن الجراح في مائتين من المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر، فلحقوا عَمْراً قبل أن يصل إلى القوم، وقد أراد رجال من الجيش إيقاد نار فمنعهم عمرو، فأنكر عليه عمربن الخطاب، فقال أبو بكر: إنما بعثه رسول الله علينا رئيساً لمعرفته بالحرب أكثر منّا فلا تعصه، فامتثل. ولما حلُّوا بساحة القوم حملوا عليهم فلم يكن أكثر من ساعة حتى تفرق الأعداء منهزمين، فجمعوا غنائمهم وأرادوا اتباع أثرهم فمنعهم قائدهم، ثم رجعوا إلى المدينة ظافرين، وبينما هم في الطريق أدركت عمرو بن العاص جنابة في ليلة باردة، فلما أصبح قال: إن أنا اغتسلت هلكت
والله يقول:
(وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)
ثم تيمم وصلى، ثم أمر بالسير
سرية عامر بن الجراح إلى جهينة أو سرية سيف البحر أو الخبط
وفي رجب أرسل عليه الصلاة والسلام أبا عبيدة عامر بن الجراح في ثلاثمائة فارس لغزو قبيلة جُهَينة التي تسكن ساحل البحر، وزوّد عليه الصلاة والسلام هذا الجيش جراباً من التمر، فساروا حتى إذا وصلوا الساحل أقاموا فيه نحو نصف شهر ينتظرون العدو، وقد فني زادهم حتى أكلوا الخَبَط، وهو ورق السَّمُر، يبلُّونه بالماء ويأكلونه إلى أن تقرّحت أشداقهم، وكان في القوم الكريم ابن الكريم قيس بن سعد بن عبادة فنحر لهم ثلاث جزر في كل يوم جزور. وفي اليوم الرابع أراد أن ينحر فنهاه رئيسه أبو عبيدة، لأن قيساً كان أخذ تلك الجزر بدين على أبيه، فخاف أبو عبيدة ألاّ يفي له أبوه بما استدان، فقال قيس: أترى
سعداً يقضي ديون الناس، ويطعم في المجاعة، ولا يقضي ديناً استدنته لقوم مجاهدين في سبيل الله؟ ولما يئسوا من لقاء عدوهم رجعوا إلى المدينة، فقال قيسبن سعد لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا، فقال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا قال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نُهيت.
غزوة الفتح الأعظم
إذا أراد الله أمراً هيّأ أسبابه وأزال موانعه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم أنه لا تذلّ العرب حتى تذل قريش، ولا تَنقاد البلاد حتى تنقاد مكة، فكان يتشوف لفتحها، ولكن كان يمنعه من ذلك العهود التي أعطاها قريشاً في الحديبية وهو سيد من وَفَّى. ولكن إذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه، فقد علمتَ أن قبيلة خُزاعة دخلت في عهد رسول الله ، وقبيلة بني بكر دخلت في عهد قريش، وكان بين خزاعة وبني بكر دماء في الجاهلية كمنت نارها بظهور الإسلام، فلما حصلت الهدنة وقف رجل من بني بكر يتغنى بهجاء الرسول على مسمع من رجل خزاعي فقام هذا وضربه فحرّك ذلك كامن الأحقاد وتذكر بنو بكر ثأرهم فشدّوا العزيمة لحرب خصومهم واستعانوا بأوليائهم من قريش، فأعانوهم سرّاً بالعدّة والرجال، ثم توجهوا إلى خزاعة وهم آمنون فقتلوا منهم ما يربو على العشرين، ولما رأى ذلك حلفاء السيد الأمين أرسلوا منهم وفداً برياسة عمرو بن سالم الخزاعي ليخبر رسول الله r بما فعل بهم بنو بكر وقريش، فلما حَلُّوا بين يديه، وأخبروه، قال: والله لأمنعنكم مما أمنع نفسي منه.
أما قريش فإنهم لما رأوا أن ما عملوه نقض للعهود التي أخذت عليهم ندموا على ما فعلوا، وأرادوا مداواة هذا الجرح، فأرسلوا قائدهم أبا سفيان بن حرب إلى المدينة ليشدّ العقد، ويزيد في المدة، فركب راحلته، وهو يظن أنه لم يسبقه أحد، حتى إذا جاء المدينة نزل على أم المؤمنين أم حبيبة بنته وقد أراد أن يجلس على فراش رسول الله فطوته عنه فقال: يا بنيّة أرغبتِ به عني أم رغبت بي عنه فقالت ما كان لك أن تجلس على فراش رسول الله وأنت مشرك نجس فقال لقد أصابك بعدي شر ثم خرج من عندها وأتى النبي في المسجد وعرض عليه ما جاء له فقال له عليه الصلاة والسلام هل كان من حَدَث قال لا فقال عليه الصلاة والسلام فنحن على مدتنا وصلحنا ولم يزد عن ذلك فقام أبو سفيان ومشى إلى أكابر المهاجرين من قريش لعلّهم يساعدونه على مقصده فلم يجد منهم مُعيناً وكلهم قالوا جِوارنا في جِوار رسول الله فرجع إلى قومه ولم يصنع شيئاً فاتهموه بأنه خانهم واتَّبع الإسلام فتنسّك عند الأوثان لينفي عن نفسه هذه التهمة أما رسول الله r فتجهز للسفر وأمر أصحابه بذلك وأخبر الصدّيق بالوجهة فقال له يا رسول الله أوَ ليس بينك وبين قريش عهد قال نعم ولكن غدروا ونقضوا ثم استنفر عليه الصلاة والسلام الأعراب الذين حول المدينة وقال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة فقدم جمع من قبائل أسلم وغِفار ومُزَينة وأشجع وجُهينة وطوى عليه الصلاة والسلام الأخبار عن الجيش كيلا يشيع الأمر فتعلم قريش فتستعد للحرب والرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يُقيم حرباً بمكة بل يريد انقياد أهلها مع عدم المساس بحُرمتها فدعا مولاه جلّ ذكره وقال اللهمّ خُذِ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها فقام حاطب بن أبي بلتعة أحد الذين شهدوا بدراً وكتب كتاباً لقريش يخبرهم ببعض أمر رسول الله وأرسله مع جارية لتوصله إلى قريش على جُعْلٍ فأعلم الله رسولهr ذلك فأرسل في أثرها عليّاً والزبير والمقداد وقال انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ خاخ فإن بها ظَعِينة معها كتاب فخذوه منها فانطلَقوا حتى أتوا الروضة، فوجدوا بها المرأة فقالوا لها أخرجي الكتاب قالت ما معي كتاب فقالوا لتخرِجنّ الكتاب أو لنُلقينّ الثياب فأخرجته من عِقَاصِها فأتوا به رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام يا حاطب ما هذا قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ إني كنت حليفاً لقريش ولم أكن من أَنْفُسِها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام فقال عليه الصلاة والسلام أما إنه قد صدقكم فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعلّ الله اطَّلع على من شهد بدراً فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وفي ذلك
أنزل الله:
(ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ
وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى
وَابْتِغَآء مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ
وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآء السَّبِيلِ)
ثم سار عليه الصلاة والسلام بهذا الجيش العظيم في منتصف رمضان بعد أن ولّى على المدينة ابنَ أُم مكتوم، وكانت عدّة الجيش عشرة آلاف مجاهد، ولما وصل الأبواء لقيه اثنان كانا من أشدّ أعدائه وهما: ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شقيق عبيدة بن الحارث شهيد بدر، وصهره عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة
شقيق زوجه أُم سلمة، وكانا يريدان الإسلام،
فقبلهما عليه الصلاة والسلام، وفرح بهما شديد الفرح، وقال:
(لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ
لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ)
ولما وصل عليه الصلاة والسلام الكَدِيد رأى أن الصوم شق على المسلمين، فأمرهم بالفطر، وأفطر هو أيضاً، وقد قابل عليه الصلاة والسلام في الطريق عمه العباس بن عبد المطلب مهاجراً بأهله وعياله، فأمره أن يعود معه إلى مكة ويرسل عياله إلى المدينة.
ولما وصل عليه الصلاة والسلام مرّ الظهران أمر بإيقاد عشرة آلاف نار وكانت قريش قد بلغهم أن محمداً زاحف بجيش عظيم لا تدرى وجهته فأرسلوا أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبُدَيل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مَرَّ الظهران فإذا هم بنيران كأنها نيران عَرَفة، فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عَرَفة فقال بديلبن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله ، فأسلم أبو سفيان،
فلما سار قال للعباس:
«احبس أبا سفيان عند خَطْم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين»
، فحبسه العباس فجعلت القبائل تمرّ كتيبةً كتيبة على أبي سفيان وهو يسأل عنها ويقول: ما لي ولها، حتى إذا مرّت به قبيلة الأنصار وحامِل رايتها سعد بن عبادة فقال سعد: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليومَ تُستَحلُّ الكعبة. فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يومُ الذِّمار. ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيها رسول الله وأصحابه، وحامل الراية الزبيربن العوام، فأخبر أبو سفيان رسول الله بمقالة سعد.
فقال عليه الصلاة والسلام:
«كذبَ سعد، ولكن هذا يوم يُعظِّم الله فيه الكعبة ويوم تُكسى فيه الكعبة».
ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن تركز رايته بالحَجُون، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة من كُدًى، ودخل هو من أعلاها من كَدَاء ونادى مناديه: مَن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. وهذه أعظم منّة له ، واستثنى من ذلك جماعة عظمت ذنوبهم، وآذوا الإسلام وأهله عظيم الأذى، فأهدر دمهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة منهم: عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح الذي أسلم، وكتب لرسول الله الوحي، ثم ارتدّ، وافترى الكذب على الأمين المأمون، فكان يقول: إن محمداً كان يأمرني أن أكتب عليم حكيم فأكتب غفور رحيم، فيقول كل جيد ومنهم عِكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، وهبَّار بن الأسود، والحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية، وكعب بن زهير، ووحشي قاتل حمزة، وهند بنت عتبة زوج أبي سفيان، وقليل غيرهم، ونهى عن قتل أحد سوى هؤلاء إلا من قاتل، فأما جيش خالد بن الوليد فقابله الذُّعرُ من قريش
يريدون صدّه، فقاتلهم وقتل منهم أربعة وعشرين، وقُتل من جيشه اثنان، ودخلها عَنْوة من هذه الجهة، وأما جيش رسول الله فلم يصادف مانعاً وهو عليه الصلاة والسلام راكب راحلته منحنٍ على الرحل تواضعاً لله وشكراً له على هذه النعمة حتى تكاد جبهته تَمَسُّ الرَّحْل، وأسامة بن زيد رديفه، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين خلت من رمضان حتى وصل الحَجُون موضع رايته، وقد نصبتْ له هناك قبة فيها أُمّ سلمة وميمونة، فاستراح قليلاً ثم سار وبجانبه أبو بكر يحادثه، وهو يقرأ سورة الفتح كاملة، حتى بلغ البيت، وطاف سبعاً على راحلته، واستلم الحجر بمحجنه، وكان حول الكعبة إذا ذاك ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل عليه الصلاة والسلام يطعنها بعود في يده، ويقول: جاء الحقُّ وزَهَقَ الباطِلُ وما يُبْدِىءُ الباطِلُ وما يُعيدُ ثم أمر بالآلهة فأخرجت من البيت وفيها صورة إسماعيل وإبراهيم في أيديهما الأزلام فقال عليه الصلاة والسلام قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قطّ وهذا أول يوم طهّرت فيه الكعبة من هذه المعبودات الباطلة بطهارة الكعبة المقدسة عند جميع العرب باديها وحاضرها من هذه الأدناس سقطت عبادة الأوثان من جميع بلاد العرب إلا قليلاً ويوشك أن نذكر للقارىء اختفاء آثارها ومحو عبادتها بالكلية.
سرية خالد بن الوليد هدم العُزَّى
وفي الخامس من مُقامه عليه الصلاة والسلام بمكة أرسل خالد بن الوليد في ثلاثين فارساً لهدم هيكل العُزّى وهي أكبر صنم لقريش، وكان هيكلها ببطن نَخْلة فتوجه إليها خالد وهدمها.
سرية عمرو بن العاص هدم سُوَاع
وأرسل عليه الصلاة والسلام عمرو بن العاص لهدم سواع وهو أعظم صنم
لهذيل وهيكله على ثلاثة أميال من مكة، فذهب إليه وهدمه.
سرية سعد بن زيد الأشهلي هدم مناة
وبعث سعدَ بن زيد الأشهلي في عشرين فارساً لهدم مناة، وهي صنم لكلب وخزاعة. وهيكلها بالمُشَلَّلِ، وهو جبل على ساحل البحر يهبط منه إلى قُدَيْد. فتوجهوا إليها وهدموها.
غزوة حُنين
بهذا الفتح العظيم وسقوط دولة الأوثان، دانت للإسلام جموعُ العرب ودخلوا فيه أفواجاً. أما قبيلتا هوازن وثقيف فأدركتهما حَمِيَّةُ الجاهلية، واجتمع الأشرافُ منهم للشورى، وقالوا: قد فرغَ محمد من قتال قومه ولا ناهية له عنّا، فَلْنَغْزُه قبل أن يغزونا. فأجمعوا أمرهم على ذلك، وولّوا رياستهم مالكَ بن عوف النَّصْري، فاجتمع له من القبائل جموعٌ كثيرة، فيهم بنو سعدِ بن بكر، الذي كان رسول الله مسترضعاً فيهم، وكان في القوم دُرَيْد بن الصِّمَّة المشهور بأصالة الرأي، وشدة البأس في الحرب، ولتقدم سنِّه لم يكن له في هذه الحرب إلا الرأي، ثم إن مالك بن عوف أمر الناس أن يأخذوا معهم نساءَهم وذراريهم وأموالهم، فلما علم ذلك دُريد سأل مالكاً عن السبب، فقال: سقتُ مع الناس أموالهم وذراريهم ونساءهم لأجعل خلف كل رجل أهله وماله يقاتل عنهم، فقال دريد: وهل يردّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورُمحه، وإن كانت عليك فُضِحت في أهلك ومالك، فلم يقبلْ مالك مشورته، وجعل النساءَ صفوفاً وراء المقاتلة، ووراءهم الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، كيلا يفر أحد من المقاتلين.
أما رسول الله فإنه لما بلغه أن هوازن وثقيف يستعدون لحربه أجمع رأيه على المسير إليهم، وخرج معه اثنا عشر ألف غازٍ، منهم ألفان من أهل مكة، والباقون هم الذين أتوا معه من المدينة، وخرج أهلُ مكة ركباناً ومشاة حتى النساء يمشين من غير ضعفٍ يرجون الغنائم، وخرج في الجيش ثمانون من المشركين، منهم صفوانُ بن أمية، وسُهيل بن عمرو، ولما قرب الجيش من معسكر العدو صَفَّ عليه الصلاة والسلام الغزاةَ، وعقد الألوية، فأعطى لواء المهاجرين لعليّ بن أبي طالب، ولواء الخزرج للحُبَاب بن المنذر، ولواء الأوس لأسيد بن حضير، وكذلك أعطى ألوية لقبائل العرب الأخرى. ثم ركب عليه الصلاة والسلام بغلته ولبس درعين والبيضة والمِغفر.
هذا، وقد أُعْجب المسلمون بكثرتهم فلم تُغْنِ عنهم شيئاً، فإن مقدمة المسلمين توجهت جهة العدو، فخرج لهم كمين كان مستتراً في شِعاب الوادي ومضايقه، وقابلهم بنبل كأنه الجراد المنتشر، فلووا أعنّة خيلهم متقهقرين، ولما وصلوا إلى من قبلهم تبعوهم في الهزيمة لما لحقهم من الدهشة، أما رسول الله r فثبتَ على بغلته في ميدان القتال، وثبت معه قليل من المهاجرين والأنصار، منهم: أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان بن الحارث وأخوه ربيعة بن الحارث ومعتبُ بن أبي لهب، وكان العباس آخذاً بلجام البغلة،
وأبو سفيان آخذاً بالركاب
وكان عليه الصلاة والسلام ينادي:
إليَّ أيّها الناس ولا يلوي عليه أحد،
وضاقت بالمنهزمين الأرض بما رحبت.
أما رجال مكة الذين هم حديثو عهد بالإسلام
والذين لم ينزعوا عنهم رِبْقَةَ الشرك فمنهم من فرح،
ومنهم من ساءه هذا الإدبار، فقال أبو سفيان بن حرب:
لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. وقال أخ لصفوان بن أمية:
الآن بطل السحر. فقال له صفوان وهو على شركه :
اسكت فَضَّ الله فاك، والله لأَنْ يَرُبَّني رجل من قريش
خير من أن يَرُبَّني رجل من هوازن.
ومرّ عليه رجل من قريش وهو يقول:
أبشر بهزيمة محمدٍ وأصحابه فوالله لا يجبرونها أبداً،
فغضب صفوانُ وقال: ويلك أتبشرني بظهور الأعراب؟
وقال عكرمة بن أبي جهل لذاك الرجل: كونهم لا يجبرونها
أبداً ليس بيدك، الأمر بيد الله ليس إلى محمد منه شيء،
إن أُديل عليه اليوم فإن العاقبة له غداً فقال سهيل بن عمرو:
والله إن عهدك بخلافه لحديث، فقال له: يا أبا يزيد
إنّا كنا على غير شيء، وعقولنا ذاهبة،
نعبد حجراً لا يضرّ ولا ينفع وبلغت هزيمة بعض الفارّين مكة،
كل هذا ورسول واقف مكانه يقول:
أنا النَّبِيُّ لا كَذِبْأَنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
ثم قال للعباس: وكان جَهْوَرِيَّ الصوت نادِ بالأنصار يا عباس فنادى: يا معشر الأنصار يا أصحاب بيعة الرضوان فأسمعَ مَنْ في الوادي، وصار الأنصار يقولون: لبَّيك لبَّيك، ويريد كل واحد منهم أن يلوي عِنان بعيره فيمنعه من ذلك كثرة الأعراب المنهزمين. فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه، وينزل عن بعيره، ويخلي سبيله، ويؤمُّ الصوتَ حتى اجتمع حولَ رسول الله r جمع عظيم منهم وأنزل الله سكينته على رسوله r، وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم يروها، فكرَّ المسلمون على عدوهم يداً واحدة فانتكث فتل المشركين وتفرقوا في كل وجه لا يلوون على شيء من الأموال والنساء والذراري وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فأخذوا النساء والذراري وأسروا كثيراً من المحاربين، وهرب من هرب، وجُرح في هذا اليوم خالد بن الوليد جراحاتٍ بالغة، وأسلمَ ناس كثيرون من مشركي مكة لما رأوهُ من عناية الله بالمسلمين.
سرية أبي عامر الأشعري إلى أؤطاس
وبعد تمام الظفر والنصر تزوج عليه الصلاة والسلام صفية بنت حييّ سيد بني النضير
وأصدقها عِتْقَهَا، وقد أسلمت، فشرفت بأُمومة المؤمنين.
النهي عن نكاح المتعة
ونهى عليه الصلاة والسلام وهو بخيبر عن نكاح المتعة،
وهي: النكاح لأجلٍ وقد كان حلالاً في الجاهلية،
واستعمل في بدء الإسلام حتى حرّمه الشرع في هذه السنة،
ونهى كذلك عن أكل لحوم الحُمُر الأهلية فأكفأ المسلمون
قدورها بعد أن نضجت ولم يطعموها.
رجوع مهاجري الحبشة
وحين رجوع المسلمين من خيبر قدِم من الحبشة جعفر بن أبي طالب ومعه الأشعريون أبو موسى وقومه، بعد أن أقاموا فيها نحواً من عشر سنين آمنين مطمئنين، وفرح عليه الصلاة والسلام بمقدمهم فرحاً عظيماً، وأعطى للأشعريين من مغانم الحصون المفتوحة صلحاً، وكان مع جعفر أُمُّ حَبيبة بنت أبي سُفيان أُمّ المؤمنين. وقدم في هذا الوقت على النبي عليه الصلاة والسلام الدوسيون إخوان أبي هريرة وهو معهم، فأعطاهم أيضاً رسول الله .
فتح وادي القُرى
ثم دعا عليه الصلاة والسلام يهودَ وادي القرى إلى الاستسلام فأبوا وقاتلوا، فقاتلهم المسلمون، وأصابوا منهم أحد عشر رجلاً، وغنموا منهم مغانم كثيرة، خَمَّسها عليه الصلاة والسلام، وترك الأرض في أيدي أهلها يزرعونها بشطر ما يُخرجون منها، وكذلك صنع بأرض خيبر، وكان يرسل إليهم عبد الله بن رواحة لتقدير الثمر، وكان تقديره شديداً عليهم، فأرادوا أن يرشوه، فقال لهم: يا أعداء الله تعطوني السُّحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحبّ الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إيّاكم وحبيّ إياه على ألاّ أعدل.
هذا وبانقياد جميع اليهود المجاورين للمدينة ارتاح المسلمون من شر عدو كان يتربص بهم الدوائر، مهما كان بين الفريقين من العهود والمواثيق. ورجع المسلمون مؤيدين ظافرين.
إسلام خالد ورفيقيه عمرو بن العاص وعثمان بن طلحة
وأعقب هذه الغزوة وهذا الفتح المبين إسلام ثلاثة طالما كانت لهم اليد الطولى في قيادة الجيوش لحرب المسلمين وهم: خالد بن الوليد المخزومي، وعمرو بن العاص السهمي، وعثمان بن طلحة العبدري، فسُرّ بهم عليه الصلاة والسلام سروراً عظيماً، وقال لخالد: الحمد لله الذي هداك، قد كنتُ أرى لك عقلاً رجوت ألاّ يسلمك إلا إلى خير فقال: يا رسول الله ادعُ الله لي أن يغفر تلك المواطن التي كنت أشهدها عليك، فقال عليه الصلاة والسلام: الإسلام يقطع ما قبله.
سرية عمر بن الخطاب إلى هوازن بتزبة
وفي شعبان بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعاً من هوازن بتُربَة يظهرون العداوة للمسلمين فأرسل لهم عمر بن الخطاب في ثلاثين رجلاً فسار إليهم. ولما
بلغهم الخبر تفرقوا فلم يجد بها عمر أحداً، فرجع.
سرية بشير بن سعد إلى مزة بفدك
ثم أرسل بشير بن سعد الأنصاري لقتال بني مرّة بناحية فَدَاك، فلما ورد بلادهم لم يرَ منهم أحداً، فأخذ نَعَمَهم وانحدر إلى المدينة، أما القوم فكانوا في الوادي، فجاءهم الصريخ فأدركوا بشيراً ليلاً وهو راجع فتراموا بالنبل، ولما أصبح اقتتل الفريقان قتالاً شديداً حتى قُتِل غالبُ المسلمين، وجُرِحَ بشير جرحاً شديداً حتى ظن أنه مات، ولما انصرف عنه العدو تحامل حتى جاء إلى رسول الله وأخبره الخبر.
سرية غالب بن عبد الله إلى أهل المبفعة بنجد
وفي رمضان أرسل عليه الصلاة والسلام غالب بن عبد الله الليثي إلى أهل المِيْفَعَة في مائة وثلاثين رجلاً، فساروا حتى هجموا على القوم فقتلوا بعضاً وأسروا آخرين، وفي أثناء الحرب طارد أُسامة بن زيد رجلاً من المشركين، ولما رأى المشرك الموت في يد أُسامة تشهَّد فظن أُسامة أن عدوه إنما قال ذلك تخلصاً فقتله ولما رجع المسلمون إلى المدينة وأُخبر رسول الله r بفعلة أُسامة قال أقتلته بعد أن قال لا إله إلاّ الله فكيف تصنع بلا إله إلاّ الله قال يا رسول الله إنما قالها متعوذاً من القتل قال عليه الصلاة والسلام فهلاّ شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب فقال يا رسول الله استغفر لي قال عليه الصلاة والسلام فكيف بلا إله إلاّ الله فما زال يكررها حتى تمنى أُسامة أنه لم يسلم قبل ذلك اليوم
وأنزل الله:
(وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً)
ثم أمر عليه الصلاة والسلام أُسامة أن يعتق رقبة كفارة لأنه قتل خطأ
سرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار
وفي شوال بلغه عليه الصلاة والسلام أن عُيينة بن حصن واعدَ جماعة من غطفان كانوا مقيمين قريباً من خيبر بأرض اسمها يُمْن وجُبَار للإغارة على المدينة، فأرسل لهم بشيربن سعد في ثلاثمائة رجل، فساروا إليهم يكمنون النهار، ويسيرون الليل حتى أتوا محلتهم، فأصابوا نَعَماً كثيرة، وتفرق الرِّعاء فأخبروا قومهم ففزعوا ولحقوا بعُلْيا بلادهم، ولم يظفر المسلمون إلا برجلين أسلما، ثم رجعوا بالغنائم إلى المدينة.
زواج ميمونة
وتزوج وهو بمكة ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج عمه حمزةبن عبد المطلب شهيد أُحُد، وخالة عبد الله بن العباس وهي آخر نسائه زواجاً
ولم يدخل
بها إلا بعد الخروج من مكة حيث كان بِسَرِف. ولما خرج عليه الصلاة والسلام أمر الذين كان تركهم لحراسة الخَيل بالذهاب ليطوفوا ففعلوا، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة فرحاً مسروراً بما حَبَاه الله من تصديق رؤياه.
السَّنَة الثامِنَة : سرية غالب بن عبد الله إلى بني الملوح
وفي صَفَر أرسل عليه الصلاة والسلام غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوِّح، وهم قوم من العرب يسكنون بالكَدِيد فسار القوم حتى إذا كانوا بقُدَيدٍ التقوا بالحارث بن مالك الليثي المعروف بابن البرصاء، وكان خصماً لدوداً فأسروه، فقال لهم: ما جئت إلا للإسلام، فقالوا له: إن تكن مسلماً لن يضرك رباط ليلة وإلا استوثقنا منك، ثم ساروا حتى وصلوا محلة بني الملوّح فاستاقوا النَّعَم والشاء، وخرج الصريخ إلى القوم فجاءهم ما لا قبل لهم به، ولكن منّ الله على المسلمين، فأرسل سيلاً شديداً حالَ بينهم وبين عدوهم حتى صار المشركون يرون نَعَمَهم تُساق وهم لا يقدرون على ردّها.
سرية غالب بن عبد الله إلى بني مزة (بفدك)
ولما رجع غالب إلى المدينة ظافراً أرسله عليه الصلاة والسلام في مائتي رجل ليقتصّ من بني مرّة بفدك وهم الذين أصابوا سرية بشير بن سعد فساروا حتى إذا كانوا قريباً من القوم خطب غالب فيمن معه، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد فإني أُوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأن تطيعوني ولا تخالفوا لي أمراً فإنه لا رأي لمن لا يُطاع. ثم آخى بين الجند، فقال: يا فلان أنت وفلان، ويا فلان أنت وفلان، لا يفارق أحد منكم زميله، وإيّاكم أن يرجع الرجل منكم فأقولَ له: أين صاحبك؟ فيقول: لا أدري، فإذا كبَّرت فكبّروا، فلما أحاطوا بالعدو، وكبّر كبّروا، وجرّدوا السيوف فلم يفلت من عدوهم أحد، واستاقوا نَعَمَهُمْ،
فكان لكل واحد من الغزاة عشرة أبعِرة.
سرية كعب بن عمير إلى ذات أطلاح
وفي ربيع الأول أرسل عليه الصلاة والسلام كعب بن عُمير الغفاري إلى ذات أطلاح من أرض الشام في خمسة عشر رجلاً، فوجدوا جمعاً كثيراً فدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا وقاتلوا، وكانوا أكثر عدداً، فاستشهد المسلمون عن آخرهم إلا رئيسهم كعببن عمير فإنه نجا، وأتى بالخبر إلى رسول الله r، فَشَقَّ عليه، وأراد أن يبعث إليهم من يقتص منهم،
فبلغه أنهم تحوَّلوا من منزلهم فعدل عن ذلك.
غزوة مُؤْتَة
جهَّز عليه الصلاة والسلام في جمادى الأولى جيشاً للقصاص ممن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسوله إلى أمير بُصرى، وأمَّر عليهم زيدَ بن حارثة، وقال لهم: إن أُصيب فالأمير جعفر بن أبي طالب فإن أُصيب فعبد الله بن رواحة. وكان عدّة الجيش ثلاثة آلاف فساروا وشيَّعهم عليه الصلاة والسلام، وكان فيما وصّاهم به:
«اغزوا باسم الله فقاتلوا عدوّ الله وعدوّكم بالشام، وستجدون
فيها رجالاً في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة
ولا صغيراً ولا بصيراً فانياً، ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناءً»
. ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا مُؤْتة مقتل الحارث بن عمير، وهناك وجدوا الروم قد جمعوا لهم جمعاً عظيماً، منهم ومن العرب المتنصِّرة. فتفاوض رجال الجيش فيما يفعلونه: أيرسلون لرسول الله يطلبون منه مَدداً أم يقدمون على الحرب؟ فقال عبد الله بن رواحة: يا قوم والله إن الذي تكرهون هو ما خرجتم له، خرجتم تطلبون الشهادة ونحن ما نقاتل بعدد ولا بقوة ولا بكثرة، ما نقاتل إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما الظهور وإما الشهادة، فقال الناس: صدق والله ابن رواحة. ومضوا للقتال، فلقوا هذه الجموع المتكاثرة، فقاتل زيد بن حارثة t حتى استشهد، فأخذ الراية جعفرُ بن أبي طالب وهو يقول: يا حبَّذا الجَنَّةُ واقْتِرَابُها طيِّبَةٌ وباردٌ شَرابُها والرومُ روم قد دَنا عذابُها كافرةٌ بعيدةٌ أنسابُها عليَّ إذ لاقيتُها ضرابُها ولم يزل يقاتل حتى استشهد t، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة فتقدم ثم تردد بعض التردّد، فقال يخاطب نفسه: أقسمتُ يا نفسُ لتنزِلنَّه طائعةً أو لَتكْرَهِنَّهْ إن أجلبَ الناسُ وشدّوا الرَّنَّهما لي أراكِ تكرهين الجنّة قد طال ما قد كنتِ مُطمئنَّه هل أنتِ إلا نُطفة في شَنَّه؟ ثم اقتحم بفرسه المعمعة، ولم يزل يقاتل t حتى استشهد، فهمَّ بعض المسلمين بالرجوع إلى الوراء، فقال لهم عقبة بن عامر: يا قوم يُقتل الإنسان مقبلاً خير من أن يقتل مدبراً، فتراجعوا واتفقوا على تأمير الشهم الباسل خالد بن الوليد وبهمَّته ومَهارته الحربية حمى هذا الجيش من الضياع إذ ما تفعل ثلاثة آلاف بمائة وخمسين ألفاً فإنه لما أخذ الراية قاتل يومه قتالاً شديدا في غده خالف ترتيب العسكر فجعل الساقة مقدمة والمقدمة ساقة والميمنة ميسرة والميسرة ميمنة فظنَّ الروم أن المَدَد جاء للمسلمين فرعبوا.ثم أخذ خالد الجيش وصار يرجع إلى الوراء حتى انحاز إلى مُؤتة، ثم مكث يناوش الأعداء سبعة أيام ثم تحاجز الفريقان لأن الكفار ظنوا أن الأمداد تتوالى للمسلمين، وخافوا أن يجرّوهم إلى وسط الصحارى حيث لا يمكنهم التخلّص وبذلك انقطع القتال، وقد نعى النبي r زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: أخذ الراية زيد فأُصيب، ثم أخذها جعفر فأُصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب
وكانت عينا رسول الله تذرفان ثم قال حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم وجاءه رجل فقال: يا رسول الله إن نساء جعفر يبكين، فأمره أن ينهاهنّ، فذهب الرجل ثم أتى فقالت: قد نهيتهنّ فلم يُطِعْنَ، فأمره فذهب ثانياً، ثم جاء فقال:
والله لقد غلبننا، فقال له عليه الصلاة والسلام: احْثُ في أفواههنّ التراب.
ولما أقبل الجيش إلى المدينة قابلهم المسلمون يقولون لهم: يا فُرّار، فقال عليه الصلاة والسلام: بل هم الكُرَّار. ظن المقيمون بالمدينة أن انحياز خالد بالجيش هزيمة، ولكن رسول الله أراهم أن ذلك من مكايد الحرب،
وأثنى على خالد في مهارته.
سرية عمرو بن العاص إلى السلاسل
وفي جمادى الآخرة بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعاً من قضاعة يتجمعون في ديارهم وراء وادي القُرى ليُغيروا على المدينة، فأرسل لهم عمرو بن العاص في ثلاثمائة رجل من سَراة المهاجرين والأنصار، ثم أمدّه بأبي عبيدة بن الجراح في مائتين من المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر، فلحقوا عَمْراً قبل أن يصل إلى القوم، وقد أراد رجال من الجيش إيقاد نار فمنعهم عمرو، فأنكر عليه عمربن الخطاب، فقال أبو بكر: إنما بعثه رسول الله علينا رئيساً لمعرفته بالحرب أكثر منّا فلا تعصه، فامتثل. ولما حلُّوا بساحة القوم حملوا عليهم فلم يكن أكثر من ساعة حتى تفرق الأعداء منهزمين، فجمعوا غنائمهم وأرادوا اتباع أثرهم فمنعهم قائدهم، ثم رجعوا إلى المدينة ظافرين، وبينما هم في الطريق أدركت عمرو بن العاص جنابة في ليلة باردة، فلما أصبح قال: إن أنا اغتسلت هلكت
والله يقول:
(وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)
ثم تيمم وصلى، ثم أمر بالسير
سرية عامر بن الجراح إلى جهينة أو سرية سيف البحر أو الخبط
وفي رجب أرسل عليه الصلاة والسلام أبا عبيدة عامر بن الجراح في ثلاثمائة فارس لغزو قبيلة جُهَينة التي تسكن ساحل البحر، وزوّد عليه الصلاة والسلام هذا الجيش جراباً من التمر، فساروا حتى إذا وصلوا الساحل أقاموا فيه نحو نصف شهر ينتظرون العدو، وقد فني زادهم حتى أكلوا الخَبَط، وهو ورق السَّمُر، يبلُّونه بالماء ويأكلونه إلى أن تقرّحت أشداقهم، وكان في القوم الكريم ابن الكريم قيس بن سعد بن عبادة فنحر لهم ثلاث جزر في كل يوم جزور. وفي اليوم الرابع أراد أن ينحر فنهاه رئيسه أبو عبيدة، لأن قيساً كان أخذ تلك الجزر بدين على أبيه، فخاف أبو عبيدة ألاّ يفي له أبوه بما استدان، فقال قيس: أترى
سعداً يقضي ديون الناس، ويطعم في المجاعة، ولا يقضي ديناً استدنته لقوم مجاهدين في سبيل الله؟ ولما يئسوا من لقاء عدوهم رجعوا إلى المدينة، فقال قيسبن سعد لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا، فقال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا قال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نُهيت.
غزوة الفتح الأعظم
إذا أراد الله أمراً هيّأ أسبابه وأزال موانعه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم أنه لا تذلّ العرب حتى تذل قريش، ولا تَنقاد البلاد حتى تنقاد مكة، فكان يتشوف لفتحها، ولكن كان يمنعه من ذلك العهود التي أعطاها قريشاً في الحديبية وهو سيد من وَفَّى. ولكن إذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه، فقد علمتَ أن قبيلة خُزاعة دخلت في عهد رسول الله ، وقبيلة بني بكر دخلت في عهد قريش، وكان بين خزاعة وبني بكر دماء في الجاهلية كمنت نارها بظهور الإسلام، فلما حصلت الهدنة وقف رجل من بني بكر يتغنى بهجاء الرسول على مسمع من رجل خزاعي فقام هذا وضربه فحرّك ذلك كامن الأحقاد وتذكر بنو بكر ثأرهم فشدّوا العزيمة لحرب خصومهم واستعانوا بأوليائهم من قريش، فأعانوهم سرّاً بالعدّة والرجال، ثم توجهوا إلى خزاعة وهم آمنون فقتلوا منهم ما يربو على العشرين، ولما رأى ذلك حلفاء السيد الأمين أرسلوا منهم وفداً برياسة عمرو بن سالم الخزاعي ليخبر رسول الله r بما فعل بهم بنو بكر وقريش، فلما حَلُّوا بين يديه، وأخبروه، قال: والله لأمنعنكم مما أمنع نفسي منه.
أما قريش فإنهم لما رأوا أن ما عملوه نقض للعهود التي أخذت عليهم ندموا على ما فعلوا، وأرادوا مداواة هذا الجرح، فأرسلوا قائدهم أبا سفيان بن حرب إلى المدينة ليشدّ العقد، ويزيد في المدة، فركب راحلته، وهو يظن أنه لم يسبقه أحد، حتى إذا جاء المدينة نزل على أم المؤمنين أم حبيبة بنته وقد أراد أن يجلس على فراش رسول الله فطوته عنه فقال: يا بنيّة أرغبتِ به عني أم رغبت بي عنه فقالت ما كان لك أن تجلس على فراش رسول الله وأنت مشرك نجس فقال لقد أصابك بعدي شر ثم خرج من عندها وأتى النبي في المسجد وعرض عليه ما جاء له فقال له عليه الصلاة والسلام هل كان من حَدَث قال لا فقال عليه الصلاة والسلام فنحن على مدتنا وصلحنا ولم يزد عن ذلك فقام أبو سفيان ومشى إلى أكابر المهاجرين من قريش لعلّهم يساعدونه على مقصده فلم يجد منهم مُعيناً وكلهم قالوا جِوارنا في جِوار رسول الله فرجع إلى قومه ولم يصنع شيئاً فاتهموه بأنه خانهم واتَّبع الإسلام فتنسّك عند الأوثان لينفي عن نفسه هذه التهمة أما رسول الله r فتجهز للسفر وأمر أصحابه بذلك وأخبر الصدّيق بالوجهة فقال له يا رسول الله أوَ ليس بينك وبين قريش عهد قال نعم ولكن غدروا ونقضوا ثم استنفر عليه الصلاة والسلام الأعراب الذين حول المدينة وقال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة فقدم جمع من قبائل أسلم وغِفار ومُزَينة وأشجع وجُهينة وطوى عليه الصلاة والسلام الأخبار عن الجيش كيلا يشيع الأمر فتعلم قريش فتستعد للحرب والرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يُقيم حرباً بمكة بل يريد انقياد أهلها مع عدم المساس بحُرمتها فدعا مولاه جلّ ذكره وقال اللهمّ خُذِ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها فقام حاطب بن أبي بلتعة أحد الذين شهدوا بدراً وكتب كتاباً لقريش يخبرهم ببعض أمر رسول الله وأرسله مع جارية لتوصله إلى قريش على جُعْلٍ فأعلم الله رسولهr ذلك فأرسل في أثرها عليّاً والزبير والمقداد وقال انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ خاخ فإن بها ظَعِينة معها كتاب فخذوه منها فانطلَقوا حتى أتوا الروضة، فوجدوا بها المرأة فقالوا لها أخرجي الكتاب قالت ما معي كتاب فقالوا لتخرِجنّ الكتاب أو لنُلقينّ الثياب فأخرجته من عِقَاصِها فأتوا به رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام يا حاطب ما هذا قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ إني كنت حليفاً لقريش ولم أكن من أَنْفُسِها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام فقال عليه الصلاة والسلام أما إنه قد صدقكم فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعلّ الله اطَّلع على من شهد بدراً فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وفي ذلك
أنزل الله:
(ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ
وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى
وَابْتِغَآء مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ
وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآء السَّبِيلِ)
ثم سار عليه الصلاة والسلام بهذا الجيش العظيم في منتصف رمضان بعد أن ولّى على المدينة ابنَ أُم مكتوم، وكانت عدّة الجيش عشرة آلاف مجاهد، ولما وصل الأبواء لقيه اثنان كانا من أشدّ أعدائه وهما: ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شقيق عبيدة بن الحارث شهيد بدر، وصهره عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة
شقيق زوجه أُم سلمة، وكانا يريدان الإسلام،
فقبلهما عليه الصلاة والسلام، وفرح بهما شديد الفرح، وقال:
(لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ
لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ)
ولما وصل عليه الصلاة والسلام الكَدِيد رأى أن الصوم شق على المسلمين، فأمرهم بالفطر، وأفطر هو أيضاً، وقد قابل عليه الصلاة والسلام في الطريق عمه العباس بن عبد المطلب مهاجراً بأهله وعياله، فأمره أن يعود معه إلى مكة ويرسل عياله إلى المدينة.
ولما وصل عليه الصلاة والسلام مرّ الظهران أمر بإيقاد عشرة آلاف نار وكانت قريش قد بلغهم أن محمداً زاحف بجيش عظيم لا تدرى وجهته فأرسلوا أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبُدَيل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مَرَّ الظهران فإذا هم بنيران كأنها نيران عَرَفة، فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عَرَفة فقال بديلبن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله ، فأسلم أبو سفيان،
فلما سار قال للعباس:
«احبس أبا سفيان عند خَطْم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين»
، فحبسه العباس فجعلت القبائل تمرّ كتيبةً كتيبة على أبي سفيان وهو يسأل عنها ويقول: ما لي ولها، حتى إذا مرّت به قبيلة الأنصار وحامِل رايتها سعد بن عبادة فقال سعد: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليومَ تُستَحلُّ الكعبة. فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يومُ الذِّمار. ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيها رسول الله وأصحابه، وحامل الراية الزبيربن العوام، فأخبر أبو سفيان رسول الله بمقالة سعد.
فقال عليه الصلاة والسلام:
«كذبَ سعد، ولكن هذا يوم يُعظِّم الله فيه الكعبة ويوم تُكسى فيه الكعبة».
ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن تركز رايته بالحَجُون، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة من كُدًى، ودخل هو من أعلاها من كَدَاء ونادى مناديه: مَن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. وهذه أعظم منّة له ، واستثنى من ذلك جماعة عظمت ذنوبهم، وآذوا الإسلام وأهله عظيم الأذى، فأهدر دمهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة منهم: عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح الذي أسلم، وكتب لرسول الله الوحي، ثم ارتدّ، وافترى الكذب على الأمين المأمون، فكان يقول: إن محمداً كان يأمرني أن أكتب عليم حكيم فأكتب غفور رحيم، فيقول كل جيد ومنهم عِكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، وهبَّار بن الأسود، والحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية، وكعب بن زهير، ووحشي قاتل حمزة، وهند بنت عتبة زوج أبي سفيان، وقليل غيرهم، ونهى عن قتل أحد سوى هؤلاء إلا من قاتل، فأما جيش خالد بن الوليد فقابله الذُّعرُ من قريش
يريدون صدّه، فقاتلهم وقتل منهم أربعة وعشرين، وقُتل من جيشه اثنان، ودخلها عَنْوة من هذه الجهة، وأما جيش رسول الله فلم يصادف مانعاً وهو عليه الصلاة والسلام راكب راحلته منحنٍ على الرحل تواضعاً لله وشكراً له على هذه النعمة حتى تكاد جبهته تَمَسُّ الرَّحْل، وأسامة بن زيد رديفه، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين خلت من رمضان حتى وصل الحَجُون موضع رايته، وقد نصبتْ له هناك قبة فيها أُمّ سلمة وميمونة، فاستراح قليلاً ثم سار وبجانبه أبو بكر يحادثه، وهو يقرأ سورة الفتح كاملة، حتى بلغ البيت، وطاف سبعاً على راحلته، واستلم الحجر بمحجنه، وكان حول الكعبة إذا ذاك ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل عليه الصلاة والسلام يطعنها بعود في يده، ويقول: جاء الحقُّ وزَهَقَ الباطِلُ وما يُبْدِىءُ الباطِلُ وما يُعيدُ ثم أمر بالآلهة فأخرجت من البيت وفيها صورة إسماعيل وإبراهيم في أيديهما الأزلام فقال عليه الصلاة والسلام قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قطّ وهذا أول يوم طهّرت فيه الكعبة من هذه المعبودات الباطلة بطهارة الكعبة المقدسة عند جميع العرب باديها وحاضرها من هذه الأدناس سقطت عبادة الأوثان من جميع بلاد العرب إلا قليلاً ويوشك أن نذكر للقارىء اختفاء آثارها ومحو عبادتها بالكلية.
سرية خالد بن الوليد هدم العُزَّى
وفي الخامس من مُقامه عليه الصلاة والسلام بمكة أرسل خالد بن الوليد في ثلاثين فارساً لهدم هيكل العُزّى وهي أكبر صنم لقريش، وكان هيكلها ببطن نَخْلة فتوجه إليها خالد وهدمها.
سرية عمرو بن العاص هدم سُوَاع
وأرسل عليه الصلاة والسلام عمرو بن العاص لهدم سواع وهو أعظم صنم
لهذيل وهيكله على ثلاثة أميال من مكة، فذهب إليه وهدمه.
سرية سعد بن زيد الأشهلي هدم مناة
وبعث سعدَ بن زيد الأشهلي في عشرين فارساً لهدم مناة، وهي صنم لكلب وخزاعة. وهيكلها بالمُشَلَّلِ، وهو جبل على ساحل البحر يهبط منه إلى قُدَيْد. فتوجهوا إليها وهدموها.
غزوة حُنين
بهذا الفتح العظيم وسقوط دولة الأوثان، دانت للإسلام جموعُ العرب ودخلوا فيه أفواجاً. أما قبيلتا هوازن وثقيف فأدركتهما حَمِيَّةُ الجاهلية، واجتمع الأشرافُ منهم للشورى، وقالوا: قد فرغَ محمد من قتال قومه ولا ناهية له عنّا، فَلْنَغْزُه قبل أن يغزونا. فأجمعوا أمرهم على ذلك، وولّوا رياستهم مالكَ بن عوف النَّصْري، فاجتمع له من القبائل جموعٌ كثيرة، فيهم بنو سعدِ بن بكر، الذي كان رسول الله مسترضعاً فيهم، وكان في القوم دُرَيْد بن الصِّمَّة المشهور بأصالة الرأي، وشدة البأس في الحرب، ولتقدم سنِّه لم يكن له في هذه الحرب إلا الرأي، ثم إن مالك بن عوف أمر الناس أن يأخذوا معهم نساءَهم وذراريهم وأموالهم، فلما علم ذلك دُريد سأل مالكاً عن السبب، فقال: سقتُ مع الناس أموالهم وذراريهم ونساءهم لأجعل خلف كل رجل أهله وماله يقاتل عنهم، فقال دريد: وهل يردّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورُمحه، وإن كانت عليك فُضِحت في أهلك ومالك، فلم يقبلْ مالك مشورته، وجعل النساءَ صفوفاً وراء المقاتلة، ووراءهم الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، كيلا يفر أحد من المقاتلين.
أما رسول الله فإنه لما بلغه أن هوازن وثقيف يستعدون لحربه أجمع رأيه على المسير إليهم، وخرج معه اثنا عشر ألف غازٍ، منهم ألفان من أهل مكة، والباقون هم الذين أتوا معه من المدينة، وخرج أهلُ مكة ركباناً ومشاة حتى النساء يمشين من غير ضعفٍ يرجون الغنائم، وخرج في الجيش ثمانون من المشركين، منهم صفوانُ بن أمية، وسُهيل بن عمرو، ولما قرب الجيش من معسكر العدو صَفَّ عليه الصلاة والسلام الغزاةَ، وعقد الألوية، فأعطى لواء المهاجرين لعليّ بن أبي طالب، ولواء الخزرج للحُبَاب بن المنذر، ولواء الأوس لأسيد بن حضير، وكذلك أعطى ألوية لقبائل العرب الأخرى. ثم ركب عليه الصلاة والسلام بغلته ولبس درعين والبيضة والمِغفر.
هذا، وقد أُعْجب المسلمون بكثرتهم فلم تُغْنِ عنهم شيئاً، فإن مقدمة المسلمين توجهت جهة العدو، فخرج لهم كمين كان مستتراً في شِعاب الوادي ومضايقه، وقابلهم بنبل كأنه الجراد المنتشر، فلووا أعنّة خيلهم متقهقرين، ولما وصلوا إلى من قبلهم تبعوهم في الهزيمة لما لحقهم من الدهشة، أما رسول الله r فثبتَ على بغلته في ميدان القتال، وثبت معه قليل من المهاجرين والأنصار، منهم: أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان بن الحارث وأخوه ربيعة بن الحارث ومعتبُ بن أبي لهب، وكان العباس آخذاً بلجام البغلة،
وأبو سفيان آخذاً بالركاب
وكان عليه الصلاة والسلام ينادي:
إليَّ أيّها الناس ولا يلوي عليه أحد،
وضاقت بالمنهزمين الأرض بما رحبت.
أما رجال مكة الذين هم حديثو عهد بالإسلام
والذين لم ينزعوا عنهم رِبْقَةَ الشرك فمنهم من فرح،
ومنهم من ساءه هذا الإدبار، فقال أبو سفيان بن حرب:
لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. وقال أخ لصفوان بن أمية:
الآن بطل السحر. فقال له صفوان وهو على شركه :
اسكت فَضَّ الله فاك، والله لأَنْ يَرُبَّني رجل من قريش
خير من أن يَرُبَّني رجل من هوازن.
ومرّ عليه رجل من قريش وهو يقول:
أبشر بهزيمة محمدٍ وأصحابه فوالله لا يجبرونها أبداً،
فغضب صفوانُ وقال: ويلك أتبشرني بظهور الأعراب؟
وقال عكرمة بن أبي جهل لذاك الرجل: كونهم لا يجبرونها
أبداً ليس بيدك، الأمر بيد الله ليس إلى محمد منه شيء،
إن أُديل عليه اليوم فإن العاقبة له غداً فقال سهيل بن عمرو:
والله إن عهدك بخلافه لحديث، فقال له: يا أبا يزيد
إنّا كنا على غير شيء، وعقولنا ذاهبة،
نعبد حجراً لا يضرّ ولا ينفع وبلغت هزيمة بعض الفارّين مكة،
كل هذا ورسول واقف مكانه يقول:
أنا النَّبِيُّ لا كَذِبْأَنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
ثم قال للعباس: وكان جَهْوَرِيَّ الصوت نادِ بالأنصار يا عباس فنادى: يا معشر الأنصار يا أصحاب بيعة الرضوان فأسمعَ مَنْ في الوادي، وصار الأنصار يقولون: لبَّيك لبَّيك، ويريد كل واحد منهم أن يلوي عِنان بعيره فيمنعه من ذلك كثرة الأعراب المنهزمين. فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه، وينزل عن بعيره، ويخلي سبيله، ويؤمُّ الصوتَ حتى اجتمع حولَ رسول الله r جمع عظيم منهم وأنزل الله سكينته على رسوله r، وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم يروها، فكرَّ المسلمون على عدوهم يداً واحدة فانتكث فتل المشركين وتفرقوا في كل وجه لا يلوون على شيء من الأموال والنساء والذراري وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فأخذوا النساء والذراري وأسروا كثيراً من المحاربين، وهرب من هرب، وجُرح في هذا اليوم خالد بن الوليد جراحاتٍ بالغة، وأسلمَ ناس كثيرون من مشركي مكة لما رأوهُ من عناية الله بالمسلمين.
سرية أبي عامر الأشعري إلى أؤطاس
يتبع
رد: سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام
سرية أبي عامر الأشعري إلى أؤطاس
فأرسل عليه الصلاة والسلام لهذه الفرقة أبا عامر الأشعري في جماعة منهم أبو موسى الأشعري، فسار إليهم وبدَّدهم وظفر بما بقي معهم من الغنائم. وقد استشهد أبو عامر في هذه الغزوة وخلَّف على الغزاة ابن أخيه أبا موسى، فرجع ظافراً منصوراً.
غزوة الطائف
وسار عليه الصلاة والسلام بمن معه إلى الطائف
ليجهز على بقية حياة ثقيف ومن تجمع معهم من هوازن،
وجعل على مقدمته خالد بن الوليد،
ومرّ عليه الصلاة والسلام بحصن لمالك بن عوف النَّصري
فأمر بهدمه.
ومرَّ ببستان لرجل من ثقيف قد تمنع فيه،
فأرسل إليه أن اخرج وإلا حَرَّقنا عليك بستانك،
فامتنع الرجل فأمر عليه الصلاة والسلام بحرقه.
ولما وصل المسلمون إلى الطائف وجدوا الأعداء
قد تحصَّنوا به وأدخلوا معهم قوتَ سنتهم،
فعسكر المسلمون قريب الحصن.
فرماهم المشركون بالنَّبل رمياً شديداً حتى أُصيب
منهم كثيرون بجراحات منهم عبد الله بن أبي بكر،
وقد طاوله جرحه حتى أماته في خلافة أبيه،
ومنهم أبو سفيان بن حرب فُقئت عينه.
وقد مات بالجراحات اثنا عشر رجلاً من المسلمين.
ولما رأى رسول الله أن العدو متمكّن من
رميهم ارتفع إلى محل مسجد الطائف الآن،
وضربَ لأُمّ سلمة وزينب قبتين هناك،
واستمر الحصارُ ثمانية عشر يوماً،
كان فيها يُنادي خالد بن الوليد بالبِراز فلم يجبه أحد،
وناداه عبد ياليل عظيم ثقيف لا ينزل إليك منّا أحد،
ولكن نقيم في حصننا،
فإن فيه من الطعام ما يكفينا سنين،
فإن أقمت حتى يفنى هذا الطعام خرجنا إليك
بأسيافنا جميعاً حتى نموت عن آخرنا،
فأمر عليه الصلاة والسلام بأن يُنْصَب عليهم المنجنيق فَنُصِبَ.
ودخل جمع من الأصحاب تحت دبابتين لينقبوا الحصن،
فأرسلت عليهم ثقيف سِكَكَ الحديد مُحماة بالنار حتى أرجعوهم.
فأمر عليه الصلاة والسلام أن تقطع أعنابهم ونخيلهم،
فقطع المسلمون فيها قطعاً ذريعاً،
فناداه أهل الحصن، أن دعها لله وللرحم،
فقال : «أدعها لله وللرحم»
ثم أمر مَنْ ينادي بأن كلَّ من ترك الحصن ونزل فهو آمن،
فخرج إليه بضعة عشر رجلاً.
ولما رأى عليه الصلاة والسلام أن تمنُّع ثقيف شديد،
وأن الفتح لم يؤذن فيه استشار نوفل بن معاوية الديلي
في الذهاب أو المقام،
فقال: يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت أخذته،
وإن تركته لم يضرّك.
فأمر عليه الصلاة والسلام بالرحيل،
وطلب منه بعض الصحابة أن يدعو على ثقيف، فقال:
«اللهمّ اهدِ ثقيفاً وائت بهم مسلمين».
سرية قيس بن سعد إلى ضداء باليمن
ولما رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أرسل قيس بن سعد في أربعمائة ليدعو صُداء قبيلة تسكن اليمن إلى الإسلام،
فجاء إلى رسول الله رجل منهم،
فقال: يا رسول الله إني جئتك وافداً عمّن ورائي،
فاردد الجيشَ وأنا لك بقومي،
فأمر عليه الصلاة والسلام بردّ الجيش.
سرية بشر بن سفيان إلى بني كعب
ثم أرسل عليه الصلاة والسلام بشر بن سفيان العدوي
إلى بني كعب من خزاعة لأخذ صدقات أموالهم،
فمنعهم بنو تميم المجاورون لهم من
أداء ما فُرِضَ عليهم.
سرية عيينة بن حصين إلى بني تميم
فلما علم بذلك رسول الله
أرسل إليهم عيينة بن حصن
في خمسين فارساً من الأعراب فجاءهم
وحاربهم وأخذ منهم أحد عشر رجلاً وإحدى
وعشرين امرأة وثلاثين صبياً وتوجه بالكل
إلى المدينة فأمر عليه الصلاة والسلام
بجعلهم في دار رَمْلَة بنت الحارث.
سرية الوليد بن عقبة إلى المصطلق
ثم بعث عليه الصلاة والسلام الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط
لأخذ صدقات بني المصطلق فلما علموا بقدومه
خرج منهم عشرون رجلاً متقلدين سلاحهم
احتفالاً بقدومه ومعهم إبل الصدقة،
فلما نظرهم ظنهم يريدون حربه لما كان بينه
وبينهم من العداوة في الجاهلية
فرجع مسرعاً إلى المدينة وأخبر الرسول
أن القوم ارتدّوا ومنعوا الزكاة فأرسل لهم خالد بن الوليد
لاستكشاف الخبر فسار إليهم في عسكره
خفية حتى إذا كان بناديهم سمع مؤذّنهم يؤذّن بالصبح
فأتاهم خالد فلم يرَ منهم إلا طاعة فرجع
وأخبر الرسول فأرسل عليه الصلاة والسلام
لهم غير الوليد لأخذ الصدقات وفي الوليد
نزل:
(ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَآءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ
قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)
سرية علقمة بن مجزز إلى الحبشة
ثم بلغ رسول الله أن جمعاً من الحبشة رآهم أهل جُدَّةَ
في مراكبهم يريدون الإغارة عليها فأرسل لهم علقمة بن مُجَزِّز
في ثلاثمائة فذهب حتى وصل جُدَّةَ ونزل في المراكب ليدركهم وكان الأحباش متحصنين في جزيرة هناك فلما رأوا المسلمين يريدونهم هربوا ولم يلقَ المسلمون كيداً فرجع علقمة بمن معه ولما كان بالطريق أذن لِسَرعان القوم أن يتعجلوا وأمر عليهم عبد الله بن حُذافة السَّهْمي وكان فيه دعابة، فأوقد لهم في الطريق ناراً وقال لهم ألستم مأمورين بطاعتي قالوا نعم قال عزمت عليكم إلا ما تواثبتم في هذه النار فقال بعضهم ما أسلمنا إلا فراراً من النار وهمَّ بذلك بعضهم فمنعهم عبد الله
وقال كنت مازحاً فلما
ذكروا ذلك لرسول الله
( قال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.)
السَّنَة التّاسِعَة : سرية علي بن أبي طالب إلى طيئ لهدم الفلس
في ربيع الأول أرسل عليه الصلاة والسلام
علي بن أبي طالب في مائة راكب وخمسين فارساً لهدم الفُلُس صنمٍ لطيئ فسار إليه وهدمه وأحرقه ولما حارب عُبَّاده هزمهم واستاق نَعَمهم وشاءهم وسبيهم، وكان فيه سَفَّانةُ بنت حاتم طيّئ.
ولما رجع علي إلى المدينة
طلبت سفَّانة من رسول الله أن يَمُنَّ عليها،
فأجابها لأنه كان من سنته أن يكرم الكرام،
فدعت له، وكان من دعائها:
شكرتْكَ يد افتقرت بعد غنى،
ولا ملكتكَ يد استغنت بعد فقر،
وأصاب الله بمعروفك مواضعه،
ولا جعل لك إلى لئيم حاجة،
ولا سلب نعمة كريم إلا وجعلك سبباً لردّها عليه.
وكانت هذه المعاملة من رسول الله سبباً في إسلام أخيها عدي بن حاتم الطائي الذي كان فرّ إلى الشام عندما رأى الرايات الإسلامية قاصدة بلاده، وكان من حديث مجيئه أن أخته توجهت إليه بالشام، وأخبرته بما عُوملت به من الكرم، فقال لها:
ما ترين في أمر هذا الرجل؟
فقالت: أرى أن تلحق به سريعاً،
فإن يكن نبياً فللسابق إليه فضل،
وإن يكن ملكاً فأنت أنت. قال: والله هذا هو الرأي.
فأرسل عليه الصلاة والسلام لهذه الفرقة أبا عامر الأشعري في جماعة منهم أبو موسى الأشعري، فسار إليهم وبدَّدهم وظفر بما بقي معهم من الغنائم. وقد استشهد أبو عامر في هذه الغزوة وخلَّف على الغزاة ابن أخيه أبا موسى، فرجع ظافراً منصوراً.
غزوة الطائف
وسار عليه الصلاة والسلام بمن معه إلى الطائف
ليجهز على بقية حياة ثقيف ومن تجمع معهم من هوازن،
وجعل على مقدمته خالد بن الوليد،
ومرّ عليه الصلاة والسلام بحصن لمالك بن عوف النَّصري
فأمر بهدمه.
ومرَّ ببستان لرجل من ثقيف قد تمنع فيه،
فأرسل إليه أن اخرج وإلا حَرَّقنا عليك بستانك،
فامتنع الرجل فأمر عليه الصلاة والسلام بحرقه.
ولما وصل المسلمون إلى الطائف وجدوا الأعداء
قد تحصَّنوا به وأدخلوا معهم قوتَ سنتهم،
فعسكر المسلمون قريب الحصن.
فرماهم المشركون بالنَّبل رمياً شديداً حتى أُصيب
منهم كثيرون بجراحات منهم عبد الله بن أبي بكر،
وقد طاوله جرحه حتى أماته في خلافة أبيه،
ومنهم أبو سفيان بن حرب فُقئت عينه.
وقد مات بالجراحات اثنا عشر رجلاً من المسلمين.
ولما رأى رسول الله أن العدو متمكّن من
رميهم ارتفع إلى محل مسجد الطائف الآن،
وضربَ لأُمّ سلمة وزينب قبتين هناك،
واستمر الحصارُ ثمانية عشر يوماً،
كان فيها يُنادي خالد بن الوليد بالبِراز فلم يجبه أحد،
وناداه عبد ياليل عظيم ثقيف لا ينزل إليك منّا أحد،
ولكن نقيم في حصننا،
فإن فيه من الطعام ما يكفينا سنين،
فإن أقمت حتى يفنى هذا الطعام خرجنا إليك
بأسيافنا جميعاً حتى نموت عن آخرنا،
فأمر عليه الصلاة والسلام بأن يُنْصَب عليهم المنجنيق فَنُصِبَ.
ودخل جمع من الأصحاب تحت دبابتين لينقبوا الحصن،
فأرسلت عليهم ثقيف سِكَكَ الحديد مُحماة بالنار حتى أرجعوهم.
فأمر عليه الصلاة والسلام أن تقطع أعنابهم ونخيلهم،
فقطع المسلمون فيها قطعاً ذريعاً،
فناداه أهل الحصن، أن دعها لله وللرحم،
فقال : «أدعها لله وللرحم»
ثم أمر مَنْ ينادي بأن كلَّ من ترك الحصن ونزل فهو آمن،
فخرج إليه بضعة عشر رجلاً.
ولما رأى عليه الصلاة والسلام أن تمنُّع ثقيف شديد،
وأن الفتح لم يؤذن فيه استشار نوفل بن معاوية الديلي
في الذهاب أو المقام،
فقال: يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت أخذته،
وإن تركته لم يضرّك.
فأمر عليه الصلاة والسلام بالرحيل،
وطلب منه بعض الصحابة أن يدعو على ثقيف، فقال:
«اللهمّ اهدِ ثقيفاً وائت بهم مسلمين».
سرية قيس بن سعد إلى ضداء باليمن
ولما رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أرسل قيس بن سعد في أربعمائة ليدعو صُداء قبيلة تسكن اليمن إلى الإسلام،
فجاء إلى رسول الله رجل منهم،
فقال: يا رسول الله إني جئتك وافداً عمّن ورائي،
فاردد الجيشَ وأنا لك بقومي،
فأمر عليه الصلاة والسلام بردّ الجيش.
سرية بشر بن سفيان إلى بني كعب
ثم أرسل عليه الصلاة والسلام بشر بن سفيان العدوي
إلى بني كعب من خزاعة لأخذ صدقات أموالهم،
فمنعهم بنو تميم المجاورون لهم من
أداء ما فُرِضَ عليهم.
سرية عيينة بن حصين إلى بني تميم
فلما علم بذلك رسول الله
أرسل إليهم عيينة بن حصن
في خمسين فارساً من الأعراب فجاءهم
وحاربهم وأخذ منهم أحد عشر رجلاً وإحدى
وعشرين امرأة وثلاثين صبياً وتوجه بالكل
إلى المدينة فأمر عليه الصلاة والسلام
بجعلهم في دار رَمْلَة بنت الحارث.
سرية الوليد بن عقبة إلى المصطلق
ثم بعث عليه الصلاة والسلام الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط
لأخذ صدقات بني المصطلق فلما علموا بقدومه
خرج منهم عشرون رجلاً متقلدين سلاحهم
احتفالاً بقدومه ومعهم إبل الصدقة،
فلما نظرهم ظنهم يريدون حربه لما كان بينه
وبينهم من العداوة في الجاهلية
فرجع مسرعاً إلى المدينة وأخبر الرسول
أن القوم ارتدّوا ومنعوا الزكاة فأرسل لهم خالد بن الوليد
لاستكشاف الخبر فسار إليهم في عسكره
خفية حتى إذا كان بناديهم سمع مؤذّنهم يؤذّن بالصبح
فأتاهم خالد فلم يرَ منهم إلا طاعة فرجع
وأخبر الرسول فأرسل عليه الصلاة والسلام
لهم غير الوليد لأخذ الصدقات وفي الوليد
نزل:
(ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَآءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ
قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)
سرية علقمة بن مجزز إلى الحبشة
ثم بلغ رسول الله أن جمعاً من الحبشة رآهم أهل جُدَّةَ
في مراكبهم يريدون الإغارة عليها فأرسل لهم علقمة بن مُجَزِّز
في ثلاثمائة فذهب حتى وصل جُدَّةَ ونزل في المراكب ليدركهم وكان الأحباش متحصنين في جزيرة هناك فلما رأوا المسلمين يريدونهم هربوا ولم يلقَ المسلمون كيداً فرجع علقمة بمن معه ولما كان بالطريق أذن لِسَرعان القوم أن يتعجلوا وأمر عليهم عبد الله بن حُذافة السَّهْمي وكان فيه دعابة، فأوقد لهم في الطريق ناراً وقال لهم ألستم مأمورين بطاعتي قالوا نعم قال عزمت عليكم إلا ما تواثبتم في هذه النار فقال بعضهم ما أسلمنا إلا فراراً من النار وهمَّ بذلك بعضهم فمنعهم عبد الله
وقال كنت مازحاً فلما
ذكروا ذلك لرسول الله
( قال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.)
السَّنَة التّاسِعَة : سرية علي بن أبي طالب إلى طيئ لهدم الفلس
في ربيع الأول أرسل عليه الصلاة والسلام
علي بن أبي طالب في مائة راكب وخمسين فارساً لهدم الفُلُس صنمٍ لطيئ فسار إليه وهدمه وأحرقه ولما حارب عُبَّاده هزمهم واستاق نَعَمهم وشاءهم وسبيهم، وكان فيه سَفَّانةُ بنت حاتم طيّئ.
ولما رجع علي إلى المدينة
طلبت سفَّانة من رسول الله أن يَمُنَّ عليها،
فأجابها لأنه كان من سنته أن يكرم الكرام،
فدعت له، وكان من دعائها:
شكرتْكَ يد افتقرت بعد غنى،
ولا ملكتكَ يد استغنت بعد فقر،
وأصاب الله بمعروفك مواضعه،
ولا جعل لك إلى لئيم حاجة،
ولا سلب نعمة كريم إلا وجعلك سبباً لردّها عليه.
وكانت هذه المعاملة من رسول الله سبباً في إسلام أخيها عدي بن حاتم الطائي الذي كان فرّ إلى الشام عندما رأى الرايات الإسلامية قاصدة بلاده، وكان من حديث مجيئه أن أخته توجهت إليه بالشام، وأخبرته بما عُوملت به من الكرم، فقال لها:
ما ترين في أمر هذا الرجل؟
فقالت: أرى أن تلحق به سريعاً،
فإن يكن نبياً فللسابق إليه فضل،
وإن يكن ملكاً فأنت أنت. قال: والله هذا هو الرأي.
غزوة تَبُوك
بلغ رسول الله أن الروم جمعت الجموع تريد غزوه
في بلاده وكان ذلك في زمن عُسْرة الناس وجدب البلاد،
وشدة الحرّ حين طابت الثمار، والناس يحبّون
المقام في ثمارهم وظلالهم، فأمر عليه الصلاة والسلام
بالتجهز، وكان قلّما يخرج في غزوة إلا ورّى بغيرها،
ليُعَمِّي الأخبار على العدو إلا في هذه الغزوة،
فإنه أخبر بمقصده لبُعد الشّقةِ ولشدة العدوِّ،
ليأخذ الناس عدّتهم لذلك،
وبعث إلى مكة وقبائل الأعراب يستنفرهم لذلك،
وحثَّ الموسرين على تجهيز المعسرين
فأنفق عثمان بن عفان عَشَرةَ آلاف دينار،
وأعطى ثلاثمائة بعير بعير بأحلاسها وأقتابها،
وخمسين فرساً،
فقال : «اللهمّ ارضَ عن عثمان فإني راضٍ عنه».
وجاء أبو بكر بكل ماله وهو أربعة آلاف درهم،
في بلاده وكان ذلك في زمن عُسْرة الناس وجدب البلاد،
وشدة الحرّ حين طابت الثمار، والناس يحبّون
المقام في ثمارهم وظلالهم، فأمر عليه الصلاة والسلام
بالتجهز، وكان قلّما يخرج في غزوة إلا ورّى بغيرها،
ليُعَمِّي الأخبار على العدو إلا في هذه الغزوة،
فإنه أخبر بمقصده لبُعد الشّقةِ ولشدة العدوِّ،
ليأخذ الناس عدّتهم لذلك،
وبعث إلى مكة وقبائل الأعراب يستنفرهم لذلك،
وحثَّ الموسرين على تجهيز المعسرين
فأنفق عثمان بن عفان عَشَرةَ آلاف دينار،
وأعطى ثلاثمائة بعير بعير بأحلاسها وأقتابها،
وخمسين فرساً،
فقال : «اللهمّ ارضَ عن عثمان فإني راضٍ عنه».
وجاء أبو بكر بكل ماله وهو أربعة آلاف درهم،
[b] فقال : «هل أبقيت لأهلك شيئاً؟»
فقال: أبقيت لهم الله ورسوله،
وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله،
وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائة أوقية،
وجاء العباس وطلحة بمال كثير.
وتصدّق عاصم بن عدي بسبعين وسْقاً من تمر،
وأرسلت النساء بكل ما يقدرن عليه من حيلهن،
وجاءه سبعةُ أنفس من فقراء الصحابة يطلبون إليه أن يحملهم.
فقال : «لا أجد ما أحملكم عليه».
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
فجهز عثمان ثلاثة منهم،
وجهز العباسُ اثنين،
وجهز يامين بن عمرو اثنين.
ولما اجتمع الرجال خرج بهم رسول الله
وهم ثلاثون ألفاً وولّى على المدينة محمد بن مسلمة
وعلى أهله علي بن أبي طالب،
وتخلَّفَ كثير من المنافقين يرأسهم عبد الله بن أُبَيّ،
وقال: يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال
والحر والبلد البعيد أيحسبُ محمد أن
قتال بني الأصفر معه اللعب؟
والله لكأني أنظر إلى أصحابه مقرّنين في الحبال.
واجتمع جماعة منهم،
فقالوا في حق رسول الله وأصحابه
ما يريدون من الإرجاف
فبلغه ذلك،
فأرسل إليهم عمّار بن ياسر يسألهم عمّا قالوا،
فقالوا: إنما كنّا نخوض ونلعب.
وجاء إليه جماعة منهم الجد بن قيس يعتذرون عن الخروج،
فقالوا: يا رسول الله ائذن لنا ولا تفتنّا
لأنّا لا نأمن من نساء بني الأصفر،
وجاء إليه المعذِّرون من الأعراب
وهم أصحاب الأعذار من ضعف أو قلّة
ليؤذن لهم فأذن لهم ،
وكذلك استأذن كثير من المنافقين فأذن لهم.
مسجد الضِّرار
ولما كان على مقربة منها، بلغه خبر مسجد الضِّرار
وهو مسجد أسَّسه جماعةٌ من المنافقين
معارضة لمسجد قُباء، ليفرقوا جماعة المسلمين.
وجاء جماعة منهم إلى الرسول طالبين منه
أن يصلِّي لهم فيه،
فسألهم عن سبب بنائه،
فحلفوا بالله إن أردنا إلا الحسنى،
والله يشهد إنهم لكاذبون،
فأمر عليه الصلاة والسلام جماعة
من أصحابه لينطلقوا إليه،
ويهدموه، ففعلوا. هذا،
ولما استقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة
جاءه جماعات من الذين تخلفوا يعتذرون كذباً،
فقبل منهم عليه الصلاة والسلام علانيتهم،
ووكل ضمائرهم إلى الله، واستغفر لهم.
سرية أبي سفيان والمغبرة هدم اللات
ولما بلغ رسولَ الله إسلام ثقيف أرسل أبا سفيان،
والمغيرة بن شعبة الثقفي، لهدم اللات:
صنم ثقيف بالطائف،
فتوجهوا وهدموه حتى سوَّوْهُ بالأرض.
حج أبي بكر
وفي أُخريات ذي القعدة،
أرسل عليه الصلاة والسلام أبا بكر ليحجّ بالناس،
فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة،
ومعه الهَدْي: عشرون بَدَنَةً أهداها رسول الله ،
وساق أبو بكر خمس بَدَنات
ولما سافر نزل على رسول الله
أوائل سورة براءة، فأرسل بها عليّاً
ليبلغها الناس في يوم الحج الأكبر،
وقال: «لا يبلغُ عني إلا رجل منّي»
فلحق أبا بكر في الطريق، فقال الصديق:
هل استعملك رسول الله على الحج؟
قال: لا، ولكن بعثني أقرأ أو أتلو «براءة»
على الناس. فلما اجتمعوا بمنى، يوم النحر،
قرأ عليهم عليٌّ ثلاث عشرة آية من أول سورة براءة،
تتضمن نبذ العهود لجميع المشركين الذين
لم يوفّوا عهودهم، وإمهالهم أربعة أشهر
يسيحون فيها في الأرض كيف شاؤوا،
وإتمام عهد المشركين الذين لم يُظاهروا على المسلمين،
ولم يغدروا بهم إلى مدتهم، ثم نادى:
لا يحجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان،
وكان علي يصلي في هذا السفر وراء أبي بكر .
(وفيات) وفاة عبد الله ابن أبيّ
وفي ذي القعدة مات عبد الله بن أُبَيَ ابن سلول،
وقد صلَّى عليه رسول الله صلاة لم يطل مثلها،
وشَيَّعَ جنازته حتى وقف على قبره،
وإنما فعل ذلك تطييباً لقلب ولده عبد الله بن عبد الله،
وتأليفاً لقلوب الخزرج لمكانة عبد الله بن أبيّ فيهم،
وقد نزع ربقة النفاق كثير من المنافقين بعد هذا اليوم،
لما رأوه من أعمال السيد الكريم ،
وقد نهى الله رسوله عن
الصلاة على المنافقين
فقال جلّ شأنه:
(وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)
وفاة أُمّ كلثوم
وفي هذه السنة في شعبان توفيت أُمّ كلثوم
بنت رسول الله وزوج عثمان
وفاة النجاشي
وفي رجب من هذا العام توفي النجاشي ملك الحبشة،
فصلى عليه الرسول صلاة الغائب
السَّنَة العاشرة : سرية خالد بن الوليد إلى نجران
في ربيع الآخر أرسل عليه الصلاة والسلام
خالد بن الوليد في جمع لبني عبد المَدَان بنجران
من أرض اليمن، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام
ثلاث مرات فإن أبوا قاتلهم، فلما قدم إليهم
بعث الركبان في كل وجه يدعون إلى الإسلام
ويقولون: أسلموا، تسلموا، فأسلموا
ودخلوا في دين الله أفواجاً،
فأقام خالد بينهم يعلمهم الإسلام والقرآن،
وكتب إلى رسول الله بذلك،
فأرسل إليه أن يقدم بوفدهم ففعل.
وحين اجتمعوا به
قال لهم: بِمَ كنتم تغلبون مَنْ قاتلكم في الجاهلية
قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحداً بظلم،
قال: «صدقتم» وأمَّر عليهم زيد بن حصين.
سرية علي بن أبي طالب إلى بني مذحج
وفي رمضان أرسل عليه الصلاة والسلام علياً
في جمع إلى بني مذْحِج قبيلة يمانية
وعَمَّمه بيده، وقال:
«سر حتى تنزل بساحتهم، فادعهم إلى قول: لا إله إلاّ الله،
فإن قالوا: نعم، فَمُرْهُمْ بالصلاة ولا تبغِ منهم غير ذلك،
وَلأَنْ يهدي الله بك رجلاً واحداً خير
لك مما طلعت عليه الشمس،
ولا تقاتلهم حتى يقاتلوك»
فلما انتهى إليهم لقي جموعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا،
ورموا المسلمين بالنبل فصفَّ عليٌّ أصحابه وأمرهم بالقتال،
فقاتلوا حتى هزموا عدوهم فكفَّ عن طلبهم،
ثم لحقهم ودعاهم إلى الإسلام فأجابوا،
وبايعه رؤساؤهم، وقالوا: نحن على مَنْ وراءنا من قومنا،
وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله، ففعل.
ثم رجع إلى رسول الله فوافاه بمكة في حجة الوداع.
بعث العمال إلى اليمن
ثم بعث عليه الصلاة والسلام إلى اليمن عمالاً من قبله،
فبعث معاذ بن جبل على الكورة العليا من جهة عدن،
وبعث أبا موسى الأشعري على الكورة السفلى،
ووصّاهما بقوله:
«يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا»
وقال لمعاذ:
«إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأَنَّ محمداً رسول الله، فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائمَ أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»
وقد مكث معاذ باليمن حتى توفي رسول الله ،
أما أبو موسى فقدم على الرسول في حجة الوداع.
خطبة الوداع
وفي السنة العاشرة حج بالناس حجة ودّع فيها المسلمين ولم يحج غيرها. وخرج لها يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة وولّى على المدينة أبا دجانة الأنصاري، وكان مع الرسول جمع عظيم يبلغ تسعين ألفاً، وأحرم للحج حيث انبعثت به راحلته ثم لبّى، فقال:
«لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شرك لك لبّيك،
إن الحمد والنعمة لك والمُلْك لا شريك لك».
ولم يَزَل سائراً حتى دخل مكة ضحى من الثنية العليا
وهي ثنية كَدَاء. ولما رأى البيت قال:
«اللهمّ زدْه تشريفاً وتعظيماً ومهابةً وبراً».
ثم طاف بالبيت سبعاً، واستلم الحجر الأسود، وصلّى ركعتين عند مقام إبراهيم، ثم شرب من ماء زمزم، ثم سعى بين الصفا والمروة سبعاً راكباً على راحلته، وكان إذا صعد الصفا يقول:
«لا إله إلا الله، الله أكبر، لا إله إلاّ الله وحده،
أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».
وفي الثامن من ذي الحجة توجه إلى منى فبات بها.
حجة الوداع
وفي التاسع منه توجه إلى عَرَفة،
وهناك خطب خطبته الشريفة التي بيَّن
فيها الدين كله أُسَّهُ وفرعه، وهاكَ نصها:
«الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. مَنْ يهدِ الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضْلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: أُوصيكم عباد الله بتقوى الله وأَحُثُّكُم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير، أما بعد: أيها الناس اسمعوا منّي أُبَيِّن لكم فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.
أيّها الناس إن دماءكم وأموالكم حرامٌ عليكم إلى أن تلقَوا ربَّكم، كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهمّ فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها.
إن ربا الجاهلية موضوع، وإنَّ أول رباً أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماءَ الجاهلية موضوعة وأوَّلُ دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية، والعَمْد قَوَدٌ، وَشِبْهُ العَمْد ما قُتِل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحقرِون من أعمالكم.
أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر يُضَلُّ به الذين كفروا يحلّونه عاماً، ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ما حرّم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عِدَّةَ الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السموات والأرض، منها أربعة حُرُمٌ، ثلاث متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جُمادى وشعبان،
ألا هل بلغت؟ اللهمّ اشهد.
أيُها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهنّ حقٌّ إلاّ يوطئن فرشَكُم غيركم، ولا يُدخلنَ أحداً تكرهونه بيوتَكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن، فإن الله أذن لكم أن تَعْضُلُوهُنَّ، وتهجروهُنَّ في المضاجع، وتضربوهنّ ضرباً غير مُبَرِّح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، وإنما النساء عندكم عَوَان، لا يملكن لأنفسهنّ شيئاً، أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهنّ خيراً،
ألا هل بلغت؟ اللهمّ اشهد.
أيّها الناس إنما المؤمنون إخوة، ولا يَحِلُّ لامرىء مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلّغت؟ اللهمّ اشهد، فلا تَرْجِعُنَّ بعدي كُفَّاراً يضرب بعضكم رقابَ بعضٍ، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضِلوا بعده: كتاب الله،
ألا هل بلغت؟ اللهمّ اشهد.
أيها الناس إن ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضلٌ على عجمي إلا بالتقوى.
ألا هل بلغت؟ اللهمّ اشهد،
فليبلغ الشاهدُ منكم الغائب.
أيُّها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز لوارثٍ وصية، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش، وللعاهر الحَجَرُ، من ادّعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل،
والسلام عليكم ورحمة الله»
وفي هذا اليوم امتنَّ الله على المؤمنين بقوله:
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى
وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً)
. فلا غرابة أن اتخذه المسلمون عيداً، ويوماً سعيداً، يُظهرون فيه شكر الله على هذه النعمة الكبرى. ثم إنه عليه الصلاة والسلام أدَّى مناسك الحج من رمي الجمار، والنحر، والحلق، والطواف.
وبعد أن أقام بمكة عشرة أيام قَفَلَ إلى المدينة
ولما رآها كبَّر ثلاثاً وقال:
«لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له المُلْك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».
وفاة إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام
وفي هذه السنة توفي إبراهيم ابن رسول الله .
السَّنَة الحادية عشرة : سرية أسامة بن زيد إلى أبنى
لأربع بقينَ من صفر، جهز عليه الصلاة والسلام جيشاً برياسة أُسامة بن زيد إلى أُبْنى حيث قتل زيد بن حارثة، والد أُسامة،
وقال له:
«سر إلى موضع قتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش، فأَغِرْ صباحاً على أهل أُبْنى، وحرِّق عليهم، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن أظفرك الله فأقلَّ اللبث فيهم،
وخذ الأدلاَّء، وقدِّم العيون والطلائع معك».
وكان مع أُسامة في هذا الجيش كبار المهاجرين والأنصار منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد.
ثم عقد عليه الصلاة والسلام لأُسامة اللواء، وقال له:
«اغزُ باسم الله، في سبيل الله، وقاتل من كفر بالله».
وقد انتقد جماعة على تأمير أُسامة وهو شاب لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره على جيش فيه كبار المهاجرين، فأُبلغ الرسول هذه المقالة فغضب غضباً شديداً،
وخرج، فقال:
«أما بعد، أيّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة؟ ولئن طعنتم في تأميري أُسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وايمُ الله إنه كان لخليقاً بالإِمارة، وان ابنه من بعده لخليقٌ بها، وإن كان لمن أحبّ الناس إليَّ، وإنهما لمظنّة لكل خير،
فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم».
ولم يتم لهذا الجيش الخروج في عهد المصطفى لأن المرض بدأة فاختاره الله للرفيق الأعلى وسيرى القارىء إن شاء الله خروج هذا الجيش متمّماً في كتابنا «إتمام الوفاء بسيرة الخلفاء».
مرض الرسول
لما تمّم عليه الصلاة والسلام ما كُلِّفَ به،
وأدى ما اؤتمن عليه، وهدى الله به أمته،
اختاره الله للرفيق الأعلى،
فجلس على المنبر مرة،
وكان فيما قال :
«إن عبداً خيَّره الله بين أَنْ يؤتيه زهرة الدنيا
وبين ما عنده، فاختار ما عنده».
فبكى أبو بكر،
وقال: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا،
فقال عليه الصلاة والسلام:
«إن أمَنَّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر،
لو كنتُ متخذاً خليلاً لاتخذتُ أبا بكر،
ولكن أُخوة الإسلام،
لا يبقى في المسجد خَوخة إلا سُدَّت إلا خَوْخة أبي بكر».
وقد بدأه عليه الصلاة والسلام مرضُه في أواخر صَفَر من السنة الحادية عشرة من الهجرة في بيت ميمونة، واستمر مريضاً ثلاثة عشر يوماً، كان في خلالها ينتقل إلى بيوت أزواجه، ولما اشتد عليه المرض استأذن منهنّ أن يُمَرَّضَ في بيت عائشة الصدّيقة فأَذِنَّ له، ولما دخل بيتها واشتد عليه وجعه، قال:
«هَريقوا علي من سبع قِرَب لم تُحْلَلْ
أو كيتُهُنّ لعلّي أعهد إلى الناس».
فأُجلس في مِخضَب، وصبّ عليه الماء
حتى أشار بيده أن قد فعلتن، وكان هذا
الماء لتخفيف حرارة الحمى التي كانت
تصيب مَن يضع يده فوق ثيابه.
صلاة أبي بكر بالناس
ولما تعذَّر عليه الخروج إلى الصلاة قال:
«مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس»
فرضيه عليه الصلاة والسلام خليفةً له في حياته. ولما رأت الأنصارُ اشتدادَ وجع الرسول طافوا بالمسجد، فدخلَ العباس، وأعلمه بمكانهم وإشفاقهم، فخرج متوكئاً على عليّ والفضل، وتقدم العباس أمامهم والنبي معصوبُ الرأس يَخُطُّ برجليه، حتى جلس في أسفل مِرقاة المنبر، وثار الناس إليه فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيّكم، هل خلد نبي قبلي فيمن بعث الله فَأُخلَّد فيكم؟ ألا إني لاحق بربي، وإنكم لاحقون بي، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيراً، وأوصي المهاجرين فيما بينهم،
فإن الله تعالى يقول:
(وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ(2) إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ)
وبينما المسلمون في صلاة الفجر، من يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الأول، وأبو بكر يصلي بهم، إذا برسول الله قد كشف سِجْفَ حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبه ليصلَ الصَّفَّ، وظن أن رسول الله يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله ، فأشار إليهم بيده: أن أتّموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
وفاة رسول الله
ولم تأت ضحوة هذا اليوم حتى فارق رسول الله دنياه،
ولحق بمولاه،
وكان ذلك في يوم الاثنين 13 ربيع أول سنة 11
(8 يونيو سنة 633)
فيكون عمره عليه الصلاة والسلام 63 سنة قمرية كاملة، وثلاثة أيام، وإحدى وستين شمسية، وأربعة وثمانين يوماً، وكان أبو بكر غائباً بالسُّنْح وهي منازل بني الحارث بن الخزرج عند زوجه حبيبة بنت خارجة بن زيد، فسلَّ عمر سيفه، وتوعَّد مَنْ يقول: مات رسول الله ، وقال: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى، فلبثَ عن قومه أربعين ليلة، والله إني لأرجو أن يُقَطِّع أيدي رجالٍ وأرجلَهم. فلما أقبل أبو بكر وأُخبر الخبر دخل بيت عائشة، وكشف عن وجه رسول الله ، فجثا يُقَبِّلُه، ويبكي، ويقول: توفي والذي نفسي بيده صلوات الله عليك يا رسول الله ما أطيبك حيّاً وميتاً، بأبي أنت وأمي لا يجمع الله عليك موتتين. ثم خرج فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا من كان يعبدُ محمداً، فإنّ محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت،
وتلا قوله تعالى:
(إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ)
وقوله:
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ
أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ
فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)
ثم مكث عليه الصلاة والسلام في بيته بقية يوم الاثنين، وليلة الثلاثاء ويومه وليلة الأربعاء، حتى انتهى المسلمون من إقامة خليفة عليهم، فَغُسِّلَ ودُفِنَ، وكان الذي يغسله عليُّ بن أبي طالب، ويساعده العباسُ، وابناه الفضل وَقُثَم، وأُسامة بن زيد، وشُقْران مولى رسول الله ، وكُفِّنَ في ثلاثة أثواب بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة. ولما فرغوا من تجهيزه وُضع على سريره في بيته، ودخل الناس عليه أرسالاً متتابعين يُصَلُّون عليه، ولم يؤمّهم أحد، ثم حُفِرَ له لحد في حجرة عائشة حيث توفي، وأنزله القبرَ عليّ والعباس وولداه الفضل وَقُثَم، وَرَشَّ قبره بلال بالماء، ورُفع قبره عن الأرض قدر شبر. توفي رسول الله ،
وترك للمسلمين ما إن اتبعوه لم يضرّهم شيء: كتابَ الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وترك أصحابه البررة الكِرام، يوضِّحون الدين، ويتمّمون فتح البلاد، ويُظهرون في الدنيا شمس الدين الإسلامي القويم، حتى يتمّم الله كلمته، ويحقّ وعده، وقد فعل،
فنسأل الله أن يقدّرنا على أداء شكره على هذه المنّة العظمى، والنعمة الكبرى.
تم بحمد الله[/b]
فقال: أبقيت لهم الله ورسوله،
وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله،
وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائة أوقية،
وجاء العباس وطلحة بمال كثير.
وتصدّق عاصم بن عدي بسبعين وسْقاً من تمر،
وأرسلت النساء بكل ما يقدرن عليه من حيلهن،
وجاءه سبعةُ أنفس من فقراء الصحابة يطلبون إليه أن يحملهم.
فقال : «لا أجد ما أحملكم عليه».
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
فجهز عثمان ثلاثة منهم،
وجهز العباسُ اثنين،
وجهز يامين بن عمرو اثنين.
ولما اجتمع الرجال خرج بهم رسول الله
وهم ثلاثون ألفاً وولّى على المدينة محمد بن مسلمة
وعلى أهله علي بن أبي طالب،
وتخلَّفَ كثير من المنافقين يرأسهم عبد الله بن أُبَيّ،
وقال: يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال
والحر والبلد البعيد أيحسبُ محمد أن
قتال بني الأصفر معه اللعب؟
والله لكأني أنظر إلى أصحابه مقرّنين في الحبال.
واجتمع جماعة منهم،
فقالوا في حق رسول الله وأصحابه
ما يريدون من الإرجاف
فبلغه ذلك،
فأرسل إليهم عمّار بن ياسر يسألهم عمّا قالوا،
فقالوا: إنما كنّا نخوض ونلعب.
وجاء إليه جماعة منهم الجد بن قيس يعتذرون عن الخروج،
فقالوا: يا رسول الله ائذن لنا ولا تفتنّا
لأنّا لا نأمن من نساء بني الأصفر،
وجاء إليه المعذِّرون من الأعراب
وهم أصحاب الأعذار من ضعف أو قلّة
ليؤذن لهم فأذن لهم ،
وكذلك استأذن كثير من المنافقين فأذن لهم.
مسجد الضِّرار
ولما كان على مقربة منها، بلغه خبر مسجد الضِّرار
وهو مسجد أسَّسه جماعةٌ من المنافقين
معارضة لمسجد قُباء، ليفرقوا جماعة المسلمين.
وجاء جماعة منهم إلى الرسول طالبين منه
أن يصلِّي لهم فيه،
فسألهم عن سبب بنائه،
فحلفوا بالله إن أردنا إلا الحسنى،
والله يشهد إنهم لكاذبون،
فأمر عليه الصلاة والسلام جماعة
من أصحابه لينطلقوا إليه،
ويهدموه، ففعلوا. هذا،
ولما استقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة
جاءه جماعات من الذين تخلفوا يعتذرون كذباً،
فقبل منهم عليه الصلاة والسلام علانيتهم،
ووكل ضمائرهم إلى الله، واستغفر لهم.
سرية أبي سفيان والمغبرة هدم اللات
ولما بلغ رسولَ الله إسلام ثقيف أرسل أبا سفيان،
والمغيرة بن شعبة الثقفي، لهدم اللات:
صنم ثقيف بالطائف،
فتوجهوا وهدموه حتى سوَّوْهُ بالأرض.
حج أبي بكر
وفي أُخريات ذي القعدة،
أرسل عليه الصلاة والسلام أبا بكر ليحجّ بالناس،
فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة،
ومعه الهَدْي: عشرون بَدَنَةً أهداها رسول الله ،
وساق أبو بكر خمس بَدَنات
ولما سافر نزل على رسول الله
أوائل سورة براءة، فأرسل بها عليّاً
ليبلغها الناس في يوم الحج الأكبر،
وقال: «لا يبلغُ عني إلا رجل منّي»
فلحق أبا بكر في الطريق، فقال الصديق:
هل استعملك رسول الله على الحج؟
قال: لا، ولكن بعثني أقرأ أو أتلو «براءة»
على الناس. فلما اجتمعوا بمنى، يوم النحر،
قرأ عليهم عليٌّ ثلاث عشرة آية من أول سورة براءة،
تتضمن نبذ العهود لجميع المشركين الذين
لم يوفّوا عهودهم، وإمهالهم أربعة أشهر
يسيحون فيها في الأرض كيف شاؤوا،
وإتمام عهد المشركين الذين لم يُظاهروا على المسلمين،
ولم يغدروا بهم إلى مدتهم، ثم نادى:
لا يحجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان،
وكان علي يصلي في هذا السفر وراء أبي بكر .
(وفيات) وفاة عبد الله ابن أبيّ
وفي ذي القعدة مات عبد الله بن أُبَيَ ابن سلول،
وقد صلَّى عليه رسول الله صلاة لم يطل مثلها،
وشَيَّعَ جنازته حتى وقف على قبره،
وإنما فعل ذلك تطييباً لقلب ولده عبد الله بن عبد الله،
وتأليفاً لقلوب الخزرج لمكانة عبد الله بن أبيّ فيهم،
وقد نزع ربقة النفاق كثير من المنافقين بعد هذا اليوم،
لما رأوه من أعمال السيد الكريم ،
وقد نهى الله رسوله عن
الصلاة على المنافقين
فقال جلّ شأنه:
(وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)
وفاة أُمّ كلثوم
وفي هذه السنة في شعبان توفيت أُمّ كلثوم
بنت رسول الله وزوج عثمان
وفاة النجاشي
وفي رجب من هذا العام توفي النجاشي ملك الحبشة،
فصلى عليه الرسول صلاة الغائب
السَّنَة العاشرة : سرية خالد بن الوليد إلى نجران
في ربيع الآخر أرسل عليه الصلاة والسلام
خالد بن الوليد في جمع لبني عبد المَدَان بنجران
من أرض اليمن، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام
ثلاث مرات فإن أبوا قاتلهم، فلما قدم إليهم
بعث الركبان في كل وجه يدعون إلى الإسلام
ويقولون: أسلموا، تسلموا، فأسلموا
ودخلوا في دين الله أفواجاً،
فأقام خالد بينهم يعلمهم الإسلام والقرآن،
وكتب إلى رسول الله بذلك،
فأرسل إليه أن يقدم بوفدهم ففعل.
وحين اجتمعوا به
قال لهم: بِمَ كنتم تغلبون مَنْ قاتلكم في الجاهلية
قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحداً بظلم،
قال: «صدقتم» وأمَّر عليهم زيد بن حصين.
سرية علي بن أبي طالب إلى بني مذحج
وفي رمضان أرسل عليه الصلاة والسلام علياً
في جمع إلى بني مذْحِج قبيلة يمانية
وعَمَّمه بيده، وقال:
«سر حتى تنزل بساحتهم، فادعهم إلى قول: لا إله إلاّ الله،
فإن قالوا: نعم، فَمُرْهُمْ بالصلاة ولا تبغِ منهم غير ذلك،
وَلأَنْ يهدي الله بك رجلاً واحداً خير
لك مما طلعت عليه الشمس،
ولا تقاتلهم حتى يقاتلوك»
فلما انتهى إليهم لقي جموعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا،
ورموا المسلمين بالنبل فصفَّ عليٌّ أصحابه وأمرهم بالقتال،
فقاتلوا حتى هزموا عدوهم فكفَّ عن طلبهم،
ثم لحقهم ودعاهم إلى الإسلام فأجابوا،
وبايعه رؤساؤهم، وقالوا: نحن على مَنْ وراءنا من قومنا،
وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله، ففعل.
ثم رجع إلى رسول الله فوافاه بمكة في حجة الوداع.
بعث العمال إلى اليمن
ثم بعث عليه الصلاة والسلام إلى اليمن عمالاً من قبله،
فبعث معاذ بن جبل على الكورة العليا من جهة عدن،
وبعث أبا موسى الأشعري على الكورة السفلى،
ووصّاهما بقوله:
«يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا»
وقال لمعاذ:
«إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأَنَّ محمداً رسول الله، فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائمَ أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»
وقد مكث معاذ باليمن حتى توفي رسول الله ،
أما أبو موسى فقدم على الرسول في حجة الوداع.
خطبة الوداع
وفي السنة العاشرة حج بالناس حجة ودّع فيها المسلمين ولم يحج غيرها. وخرج لها يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة وولّى على المدينة أبا دجانة الأنصاري، وكان مع الرسول جمع عظيم يبلغ تسعين ألفاً، وأحرم للحج حيث انبعثت به راحلته ثم لبّى، فقال:
«لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شرك لك لبّيك،
إن الحمد والنعمة لك والمُلْك لا شريك لك».
ولم يَزَل سائراً حتى دخل مكة ضحى من الثنية العليا
وهي ثنية كَدَاء. ولما رأى البيت قال:
«اللهمّ زدْه تشريفاً وتعظيماً ومهابةً وبراً».
ثم طاف بالبيت سبعاً، واستلم الحجر الأسود، وصلّى ركعتين عند مقام إبراهيم، ثم شرب من ماء زمزم، ثم سعى بين الصفا والمروة سبعاً راكباً على راحلته، وكان إذا صعد الصفا يقول:
«لا إله إلا الله، الله أكبر، لا إله إلاّ الله وحده،
أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».
وفي الثامن من ذي الحجة توجه إلى منى فبات بها.
حجة الوداع
وفي التاسع منه توجه إلى عَرَفة،
وهناك خطب خطبته الشريفة التي بيَّن
فيها الدين كله أُسَّهُ وفرعه، وهاكَ نصها:
«الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. مَنْ يهدِ الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضْلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: أُوصيكم عباد الله بتقوى الله وأَحُثُّكُم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير، أما بعد: أيها الناس اسمعوا منّي أُبَيِّن لكم فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.
أيّها الناس إن دماءكم وأموالكم حرامٌ عليكم إلى أن تلقَوا ربَّكم، كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهمّ فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها.
إن ربا الجاهلية موضوع، وإنَّ أول رباً أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماءَ الجاهلية موضوعة وأوَّلُ دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية، والعَمْد قَوَدٌ، وَشِبْهُ العَمْد ما قُتِل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحقرِون من أعمالكم.
أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر يُضَلُّ به الذين كفروا يحلّونه عاماً، ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ما حرّم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عِدَّةَ الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السموات والأرض، منها أربعة حُرُمٌ، ثلاث متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جُمادى وشعبان،
ألا هل بلغت؟ اللهمّ اشهد.
أيُها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهنّ حقٌّ إلاّ يوطئن فرشَكُم غيركم، ولا يُدخلنَ أحداً تكرهونه بيوتَكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن، فإن الله أذن لكم أن تَعْضُلُوهُنَّ، وتهجروهُنَّ في المضاجع، وتضربوهنّ ضرباً غير مُبَرِّح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، وإنما النساء عندكم عَوَان، لا يملكن لأنفسهنّ شيئاً، أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهنّ خيراً،
ألا هل بلغت؟ اللهمّ اشهد.
أيّها الناس إنما المؤمنون إخوة، ولا يَحِلُّ لامرىء مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلّغت؟ اللهمّ اشهد، فلا تَرْجِعُنَّ بعدي كُفَّاراً يضرب بعضكم رقابَ بعضٍ، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضِلوا بعده: كتاب الله،
ألا هل بلغت؟ اللهمّ اشهد.
أيها الناس إن ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضلٌ على عجمي إلا بالتقوى.
ألا هل بلغت؟ اللهمّ اشهد،
فليبلغ الشاهدُ منكم الغائب.
أيُّها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز لوارثٍ وصية، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش، وللعاهر الحَجَرُ، من ادّعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل،
والسلام عليكم ورحمة الله»
وفي هذا اليوم امتنَّ الله على المؤمنين بقوله:
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى
وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً)
. فلا غرابة أن اتخذه المسلمون عيداً، ويوماً سعيداً، يُظهرون فيه شكر الله على هذه النعمة الكبرى. ثم إنه عليه الصلاة والسلام أدَّى مناسك الحج من رمي الجمار، والنحر، والحلق، والطواف.
وبعد أن أقام بمكة عشرة أيام قَفَلَ إلى المدينة
ولما رآها كبَّر ثلاثاً وقال:
«لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له المُلْك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».
وفاة إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام
وفي هذه السنة توفي إبراهيم ابن رسول الله .
السَّنَة الحادية عشرة : سرية أسامة بن زيد إلى أبنى
لأربع بقينَ من صفر، جهز عليه الصلاة والسلام جيشاً برياسة أُسامة بن زيد إلى أُبْنى حيث قتل زيد بن حارثة، والد أُسامة،
وقال له:
«سر إلى موضع قتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش، فأَغِرْ صباحاً على أهل أُبْنى، وحرِّق عليهم، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن أظفرك الله فأقلَّ اللبث فيهم،
وخذ الأدلاَّء، وقدِّم العيون والطلائع معك».
وكان مع أُسامة في هذا الجيش كبار المهاجرين والأنصار منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد.
ثم عقد عليه الصلاة والسلام لأُسامة اللواء، وقال له:
«اغزُ باسم الله، في سبيل الله، وقاتل من كفر بالله».
وقد انتقد جماعة على تأمير أُسامة وهو شاب لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره على جيش فيه كبار المهاجرين، فأُبلغ الرسول هذه المقالة فغضب غضباً شديداً،
وخرج، فقال:
«أما بعد، أيّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة؟ ولئن طعنتم في تأميري أُسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وايمُ الله إنه كان لخليقاً بالإِمارة، وان ابنه من بعده لخليقٌ بها، وإن كان لمن أحبّ الناس إليَّ، وإنهما لمظنّة لكل خير،
فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم».
ولم يتم لهذا الجيش الخروج في عهد المصطفى لأن المرض بدأة فاختاره الله للرفيق الأعلى وسيرى القارىء إن شاء الله خروج هذا الجيش متمّماً في كتابنا «إتمام الوفاء بسيرة الخلفاء».
مرض الرسول
لما تمّم عليه الصلاة والسلام ما كُلِّفَ به،
وأدى ما اؤتمن عليه، وهدى الله به أمته،
اختاره الله للرفيق الأعلى،
فجلس على المنبر مرة،
وكان فيما قال :
«إن عبداً خيَّره الله بين أَنْ يؤتيه زهرة الدنيا
وبين ما عنده، فاختار ما عنده».
فبكى أبو بكر،
وقال: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا،
فقال عليه الصلاة والسلام:
«إن أمَنَّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر،
لو كنتُ متخذاً خليلاً لاتخذتُ أبا بكر،
ولكن أُخوة الإسلام،
لا يبقى في المسجد خَوخة إلا سُدَّت إلا خَوْخة أبي بكر».
وقد بدأه عليه الصلاة والسلام مرضُه في أواخر صَفَر من السنة الحادية عشرة من الهجرة في بيت ميمونة، واستمر مريضاً ثلاثة عشر يوماً، كان في خلالها ينتقل إلى بيوت أزواجه، ولما اشتد عليه المرض استأذن منهنّ أن يُمَرَّضَ في بيت عائشة الصدّيقة فأَذِنَّ له، ولما دخل بيتها واشتد عليه وجعه، قال:
«هَريقوا علي من سبع قِرَب لم تُحْلَلْ
أو كيتُهُنّ لعلّي أعهد إلى الناس».
فأُجلس في مِخضَب، وصبّ عليه الماء
حتى أشار بيده أن قد فعلتن، وكان هذا
الماء لتخفيف حرارة الحمى التي كانت
تصيب مَن يضع يده فوق ثيابه.
صلاة أبي بكر بالناس
ولما تعذَّر عليه الخروج إلى الصلاة قال:
«مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس»
فرضيه عليه الصلاة والسلام خليفةً له في حياته. ولما رأت الأنصارُ اشتدادَ وجع الرسول طافوا بالمسجد، فدخلَ العباس، وأعلمه بمكانهم وإشفاقهم، فخرج متوكئاً على عليّ والفضل، وتقدم العباس أمامهم والنبي معصوبُ الرأس يَخُطُّ برجليه، حتى جلس في أسفل مِرقاة المنبر، وثار الناس إليه فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيّكم، هل خلد نبي قبلي فيمن بعث الله فَأُخلَّد فيكم؟ ألا إني لاحق بربي، وإنكم لاحقون بي، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيراً، وأوصي المهاجرين فيما بينهم،
فإن الله تعالى يقول:
(وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ(2) إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ)
وبينما المسلمون في صلاة الفجر، من يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الأول، وأبو بكر يصلي بهم، إذا برسول الله قد كشف سِجْفَ حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبه ليصلَ الصَّفَّ، وظن أن رسول الله يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله ، فأشار إليهم بيده: أن أتّموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
وفاة رسول الله
ولم تأت ضحوة هذا اليوم حتى فارق رسول الله دنياه،
ولحق بمولاه،
وكان ذلك في يوم الاثنين 13 ربيع أول سنة 11
(8 يونيو سنة 633)
فيكون عمره عليه الصلاة والسلام 63 سنة قمرية كاملة، وثلاثة أيام، وإحدى وستين شمسية، وأربعة وثمانين يوماً، وكان أبو بكر غائباً بالسُّنْح وهي منازل بني الحارث بن الخزرج عند زوجه حبيبة بنت خارجة بن زيد، فسلَّ عمر سيفه، وتوعَّد مَنْ يقول: مات رسول الله ، وقال: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى، فلبثَ عن قومه أربعين ليلة، والله إني لأرجو أن يُقَطِّع أيدي رجالٍ وأرجلَهم. فلما أقبل أبو بكر وأُخبر الخبر دخل بيت عائشة، وكشف عن وجه رسول الله ، فجثا يُقَبِّلُه، ويبكي، ويقول: توفي والذي نفسي بيده صلوات الله عليك يا رسول الله ما أطيبك حيّاً وميتاً، بأبي أنت وأمي لا يجمع الله عليك موتتين. ثم خرج فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا من كان يعبدُ محمداً، فإنّ محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت،
وتلا قوله تعالى:
(إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ)
وقوله:
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ
أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ
فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)
ثم مكث عليه الصلاة والسلام في بيته بقية يوم الاثنين، وليلة الثلاثاء ويومه وليلة الأربعاء، حتى انتهى المسلمون من إقامة خليفة عليهم، فَغُسِّلَ ودُفِنَ، وكان الذي يغسله عليُّ بن أبي طالب، ويساعده العباسُ، وابناه الفضل وَقُثَم، وأُسامة بن زيد، وشُقْران مولى رسول الله ، وكُفِّنَ في ثلاثة أثواب بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة. ولما فرغوا من تجهيزه وُضع على سريره في بيته، ودخل الناس عليه أرسالاً متتابعين يُصَلُّون عليه، ولم يؤمّهم أحد، ثم حُفِرَ له لحد في حجرة عائشة حيث توفي، وأنزله القبرَ عليّ والعباس وولداه الفضل وَقُثَم، وَرَشَّ قبره بلال بالماء، ورُفع قبره عن الأرض قدر شبر. توفي رسول الله ،
وترك للمسلمين ما إن اتبعوه لم يضرّهم شيء: كتابَ الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وترك أصحابه البررة الكِرام، يوضِّحون الدين، ويتمّمون فتح البلاد، ويُظهرون في الدنيا شمس الدين الإسلامي القويم، حتى يتمّم الله كلمته، ويحقّ وعده، وقد فعل،
فنسأل الله أن يقدّرنا على أداء شكره على هذه المنّة العظمى، والنعمة الكبرى.
تم بحمد الله[/b]
رد: سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام
وجدت هنا موضوع وطرح شيق
ورائع اعجبني ورآق لي
شكراً جزيلاً لك
وبالتوفيق الدائم
غايه في الاهميه
شكرا للمجهود
قمرالزمان- مشرف
- التعارف : الفيس بوك
الجنسيه :
الجنس :
عدد المساهمات : 315
تاريخ التسجيل : 21/07/2017
رد: سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام
يعطيك العافيه كتاب رائع وانت دائما رائع في طرحك .
أنتظر جديدك بكل الشوق والاحترام ,,,
أنتظر جديدك بكل الشوق والاحترام ,,,
دائما موفق في الانتقاء
تقبل مروري المتواضع
تقبل مروري المتواضع
علاء رفعت- المراقب العام
- التعارف : مصادفه طيبه لوجه الله
الجنسيه :
الجنس :
عدد المساهمات : 276
تاريخ التسجيل : 18/07/2017
مواضيع مماثلة
» سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام
» سيدنا هود علي نبينا وعلية الصلاه والسلام
» سيدنا محمد عليه الصلاه و السلام من المولد الي الرفيق الاعلي
» سيدنا هود علي نبينا وعلية الصلاه والسلام
» سيدنا محمد عليه الصلاه و السلام من المولد الي الرفيق الاعلي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة نوفمبر 22, 2024 9:47 am من طرف Shehab
» المسكوكات الايوبية والمملوكية عبدالرحمن بن ابراهيم بن صالح البراهيم
الجمعة نوفمبر 22, 2024 9:37 am من طرف Shehab
» السكه الاسلاميه في مصر د رأفت محمد النبراوي
الجمعة نوفمبر 22, 2024 9:36 am من طرف Shehab
» كهف الأسرار ومشرق الأنوار للأسيوطى نسخة منقرضه
الأحد نوفمبر 17, 2024 12:53 pm من طرف يحيى
» كتاب الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين جزئين دأ . محمد حجي
الخميس نوفمبر 14, 2024 5:03 pm من طرف mustapha
» العلماء والسلطة العثمانية في الجزائر فترة الدايات 1671- 1830م تأليف رشيدة شدري معمر
الخميس نوفمبر 14, 2024 8:15 am من طرف داود
» كتاب في الايات والخواتم
الأربعاء أكتوبر 09, 2024 10:34 am من طرف محمد رضا
» كتاب سر الأسرار
الأربعاء أكتوبر 09, 2024 10:31 am من طرف محمد رضا
» السحر الاسود الفرعوني كتاب مليان طلاسم
الأربعاء أكتوبر 09, 2024 10:27 am من طرف محمد رضا